التطورات المتسارعة والحاسمة في سوريا لا تمثلُ انتصارا عسكريا مستحقا للشعب السوري على النظام الطائفي المجرم الذي تحكم به وأذاقه الويلات لمدة 54 عاما فحسب؛ ولكنها تؤشر إلى تحول كبير في الواقع الجيوسياسي للمنطقة، رُفع معهُ الغطاء الأمريكي عن محور المقاومة فتهاوت سطوته وتحطمت إمكانياته وبلغ عجزه المستوى الذي لا تُخطئه العين.
ثمة حليف إقليمي قوي هو تركيا، يقف خلف النجاحات العظيمة التي حققتها قوات المعارضة السورية، يبدو ذلك جليا في التغطية السياسية، وفي الجهود والاستعدادات والدعم اللوجستي، على النحو الذي بدد الصورة السلبية القاتمة التي تشكلت حول الدور التركي طيلة السنوات الماضية، خصوصا بعد سقوط حلب في حرب العام 2019 ومعها مناطق خفض التصعيد المتفق عليها، أمام الضربات الروسية والإيرانية، وهي ضربات كانت محروسة بعناية من الجانب الأمريكي.
في اليمن هناك ما يشبه الأزمة السورية من زوايا عدة، فهناك ملايين من الشعب تعرضوا للقتل والتشرد والنزوح، وفقدوا حقهم في الحياة الكريمة وصودرت أملاكم ومقدراتهم وتتعرض حياتهم للخطر في كل وقت في وطنهم، بسبب طغيان المليشيات التي تمكنت من رقابهم بفعل التواطؤ الإقليمي والدعم والتغطية السياسية التي قدمها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك مشروع انفصالي، واستفحال لدور الكتائب السلفية التي تخدم أجندات أجنبية، وهناك مكون طائفي يمثله الحوثيون يهيمن على العاصمة صنعاء ويدور حول المحور الطائفي الإقليمي بقيادة إيران، وهناك تركيبة معقدة من المليشيات متعددة الولاءات، وسطوة إقليمية ودولية على الجغرافية اليمنية وجرأة في التعبير عن الأطماع في هذه الجغرافيا عبر الدعم الوقح للمشاريع الانفصالية والطائفية.
الجميع يتطلع باهتمام إلى الخطوة التي ستُقدم عليها المملكة العربية السعودية ومعها الإمارات اللتان تتحكمان باليمن سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وعما إذا كنا سنرى تحولا طال انتظاره في موقفهما يشبه ذلك التحول الذي رأيناه في سوريا، مدفوعا بالدور الأخلاقي لتركيا وعزمها على إعادة السلام الذي يحفظ لسوريا وحدتها ويضمن عودة ملايين السوريين إلى وطنهم منتصرين، بعد أن رسخت عقيدة سياسية لدى معظم الطيف السياسي التركي تقضي بتسليم اللاجئين إلى السفاح بشار الأسد ضمن تسوية سياسية كرعايا مقهورين ومهزومين وفاقدي الكرامة.
اليمنيون مثلهم مثل السوريين، لن يقبلوا بالهزيمة التي تدفعهم إليها التسوية السياسية ذات الصبغة الثنائية؛ أحد أطرافها دولة كبيرة مثل السعودية، وطرفها الآخر جماعة الحوثي الطائفية، وهدفها شرعنة الانقلاب، ودفن الشرعية، في وقت تتوفر فيه كل الإمكانيات التي تتيح للشعب اليمني الانتصار على الجماعة الانقلابية وغيرها من التشكيلات المسلحة الأخرى المستفزة للمشاعر الوطنية.
وهنا يحسن التذكير بأن حرب الهاشتاجات التي تديرها السعودية، عبر مئات الناشطين والذباب الإلكتروني، لا تكفي؛ قد تضغط معنويا على الحوثيين لكنها لن تزحزحهم عن أماكنهم قيد أنملة. والسيناريو الأمثل لإنهاء أزمة اليمن وطي صفحة الحرب وفرض السلام، يتمثل في إطلاق عملية عسكرية ضاغطة، تجبر الحوثيين على الذهاب إلى طاولة الحوار بما يضمن تسوية عادلة وتتكئ على المرجعيات المتفق عليها.
في ظل هذه السيولة المدهشة في أحداث المنطقة، يزور المتحدث باسم جماعة الحوثي محمد عبد السلام وبسرية تامة الرياض، وما من تفسير لزيارته سوى أنها تريد إحياء مسار المحادثات الثنائية بين جماعته والسعودية، رغم أنه يأتي هذه المرة مثقلا بالخيبات وآملا تجنب تداعيات الخسارة الاستراتيجية التي مُني بها محور المقاومة بقيادة إيران في لبنان وسوريا.
الزيارة ما من شك أنها تأتي ثمرة التواصل عالي المستوى الذي جرى مؤخرا بين الرياض وطهران عبر الزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين العسكريين والمدنيين، في إطار حرص إيران على الدفع بالتسوية الثنائية بين المملكة والحوثيين إلى نهايتها، بعد الشوط الذي تم قطعه على هذه الصعيد خلال العام الماضي، بوساطة عمانية وضغط واضح من الإدارة الأمريكية.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يمكن لجهود التسوية الثنائية السعودية- الحوثية أن تتواصل؟ حتى بعد أن خففت واشنطن قبضتها الضاغطة على خناق المملكة، وبعد أن وجهت لحلف المقاومة ضربة عسكرية مؤلمة أخرجته عن الجاهزية وبدا عاجزا عن التعامل مع التحديات الوجودية الناشئة في سورية، بعد التقدم العسكري القوي والمفاجئ لقوات المعارضة السورية ووصولها إلى دمشق.
تبرز تحديات حقيقية أمام الحوثيين الذين يحاولون الإمساك بما أتاحته اللقاءات المتقدمة مع الجانب السعودي في كل من الرياض وصنعاء، ومن أهم هذه التحديات، أن المملكة العربية السعودية، تبدو الآن متحررة بالكامل من الضغوط الأمريكية بشأن حرب اليمن، وتساوم بأريحية كبيرة خصوصا أن واشنطن حريصة على دور سعودي رئيس في مرحلة ما بعد حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة.
ثمة مؤشرات على أن مستقبل الحوثيين يكتنفه خطر المواجهة العسكرية الشاملة، والسعودية ربما ترجح الذهاب إلى هذا الخيار، لكنها تحرص على وجود ضمانات أمريكية، بدأت تتسرب معلومات بشأنها ومنها التزام الولايات المتحدة الأمريكية بنشر بطاريات صواريخ باتريوت على الحدود الجنوبية للمملكة، خصوصا أن ترامب هو الذي سحب الباتريوت من المملكة إثر تعرض أكبر منشآتها النفطية في منطقتي بحيص وبقيق لهجمات بصواريخ ومسيرات إيرانية في 14 أيلول/ سبتمبر 2019.
*نقلا عن عربي21