صار الكثير من طلبة العلم والمثقفين لا يملكون الأدوات الحقيقية للتعبير سواءً عن تاريخ ماضيهم ومآسيهم، أو عن معاني التعايش الذي خُصصت له في ماليزيا ندوة قام البعض بها، لا يملكون الرؤية الشاملة لمعانيه، ولا الأدوات الإبداعية للتعبير عن أهميته.
 
  وعلى مدى قرن من الزمان لم نكن نحن اليمنيون نجيد التعبير عن العيش في جحيم الشقاء، الذي يصنع منه البعض فكاهة يستطيعون من خلالها كسر آلامهم وأحزناهم في اللحظة الراهنة، كما فقدنا الشعور بأهمية الكتابة عن العيش والرخاء الوفير الذي صنع أجدادنا الممالك منه، وشيدوا على إثره القصور والحضارات، والجيوش التي حملت عقيدة الدفاع والهجوم معاً.
 
وفي الوقت الذي لم نكد نستفيق من الصدمة النفسية التي أحدثتها فعالية نادي الثقافة في الجامعة الإسلامية ماليزيا عن التاريخ اليمني ورواده: ذي يزن، وبلقيس ملكة نساء العالمين التي ذكرها القرآن، وجدَّها سبأ الذي اشتق اسمه من كثرة معاركه، والسَّبْي الذي كانت تحصده انتصاراته وجيوشه، وذو القرنين الصعب بن رائش الحميري التبع اليماني الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها، كما في القصة القرآنية التي وردت في أواخر سورة الكهف، وقد عرضوه بطريقة هزلية عكست هشاشة فهم الشباب اليمني لتاريخهم، وغياب جلال هيبته في قلوبهم، والذي لولاه لما عرفتهم أمة، أو ذُكروا في سجلٍ وكتاب.
 
تفاجأنا يوم أمس بفعالية أخرى هدفت كما أعتقد إلى خلق روح التعايش بين اليمنيين، والتعبير عنه برسومٍ خلت من أبسط معانيه لمجتمعٍ عربي أصيل شربت منه العرب عروقها وأنسابها، والجينات اليمنية التي قال عنها المؤرخون: من لم تجر في جسده جينات اليمن فليس بعربي. ولم تعرض في الفعالية أنشودة وطنية أو قصيدة شعرية، أو عرض تاريخي لبلد تعددت ثقافاته الفنية شعراً وأدباً وعلماً وأغنية، وألواناً تراثية وتنوعت ملبساً مأكلاً مشرباً فناً معمارياً رقصاً برعاً أهازيج ملالاة أمثالاً شعبيةً وزوامل.
 
علماً بأنه إذا لم يكتمل أي رسم تصويري يهدف إلى إبراز شخصية تاريخية، أو مشهد تمثيلي يسعى إلى عرض ثقافة معينة، أو حضارة مشيدة؛ فإنه يصيبها بالنكسة والشلل في عقول وأفئدة المتلقين قراء ومشاهدين. جهود جبارة يجب أن تبذل لإبراز وعرض التاريخ اليمني وحروبه وآلامه وآماله، اليوم وغداً وحتى قيام الساعة بخيال وهمة وطنية وقومية عاشقة، يدعى لها الكتاب والأكاديميون، سياسيون ومثقفون، مهتمون ومتخصصون، وإبرازها إبرازاً يليق بها في حينها أولى وأبر، ومغادرتها وتركها لغيرها من الاهتمامات والانشغالات.
 
فعالية التعايش التي أقامها نفس النادي بنفس الجامعة بِنَفَسٍ آخر وشخوص مختلفة، برغم جهود الشباب التي بُذلت، تخالطت فيه المغازلة السياسية باللون الحزبي المركّز، وشابته نزعات الظهور من وجهة نظر الكاتب -والتي ليست لزاماً على أحد- لم توفق كسابقاتها من الفعاليات بتوصيل الرسالة، وأداء المادة بسبب بعد الإخلاص، واستيعاب مداها وأهميتها على كل المستويات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والفكرية.
 
ومن ثم لن يعُمّ السلام ويسود التعايش عن طريق تربع الضيوف على الكراسي الوثيرة، وترديد الأغاني العاطفية، والأناشيد الدينية، والكلمات الحالمة، والحضور بغرض الترفيه، ودعوة المقربين والأصدقاء والنخب المخصوصة؛ كي يقضوا ساعات يتبادلون فيها السلام ويكررون التحايا.
 
كما أن الفعالية تفادت عمداً أو بغير قصد التطرق إلى أسباب الصراع المزمن في اليمن، والحروب التي بددت معاني التعايش معنىً ومبنى، نظرياً وعلى أرض الواقع، أحداث ومآسي، وأحقاد كُرْهٍ زرعه الحاقدون عليلوا العصر، ومرضى الزمان؛ تستحق البحث والتفكير العميق، في ألفِ بحث وكتاب وفعالية جادة، يغمرها الصدق والروح الوطنية الجادة، وتشدها قيود الخوف على مستقبل أمة أصبحت ضحية أطماع سياسية اعتبر اليمن البعض ملكية خاصة بهم ولهم دون غيرهم؛ أقرتها لهم السماء، أو غرستها الجغرافيا في مخيلاتهم التي أضحت مصدراً للتهكم ومثاراً للسخرية.
 
فصارت مناسبات ولقاءات الخارج عبارة عن خلطات ثقافية مائعة، وصَخَباً في الفضاء.. جعجعة طواحين لا تنتج "هريشاً" ولا طحيناً، ينطبق عليها قصيدة الشاعر نزار قباني التي ألقاها في مؤتمر أبي تمام والتي تقول:

أحبائي :

إذا جئنا لنحضر حفلة للزار
منها يضجر الضّجَر
 إذا كانت طبول الشعر، يا سادة
تفرقنا .. وتجمعنا
وتعطينا حبوب النوم في فمنا
وتسطلنا .. وتكسرنا
كما كانت الأوراق في تشرين تنكسر
فإني سوف أعتذر..