زمن الثورات المضادة ومعاداة الديمقراطية
الثلاثاء, 10 أكتوبر, 2017 - 09:29 صباحاً

لا تقتصر الهجمة الشرسة التي تواجهها الفكرة الديمقراطية اليوم على تنامي الوزن السياسي للحركات الشعبوية في الغرب الأمريكي والأوروبي والنجاحات الانتخابية لبعض حاملي البرامج الشعبوية من أحزاب وأشخاص. بل يفرض أيضا بقاء الحكومات السلطوية، وهي من روسيا والصين إلى السعودية وإيران ومصر تضرب عرض الحائط بحقوق الإنسان والحريات وحكم القانون وتتمادى في توظيف أدوات العنف الرسمي لإنزال العقاب بمعارضيها قتلا وسجنا وتعذيبا ومنعا من السفر وتكميما للأفواه، على الفكرة الديمقراطية تحديات وأعباء جسيمة.

فالسلطوية في 2017 تطرح نفسها كنموذج عالمي بديل يستند إلى أضداد الفكرة الديمقراطية، انتهاك الحقوق وإلغاء الحريات وتفكيك مرتكزات حكم القانون إن حضرت أو مواصلة التنصل منها إن كانت غائبة، ويزعم دعاته تارة باسم الاستقرار وثانية باسم النمو الاقتصادي والتحديث والتنمية الشاملة وأخيرة باسم المصلحة الوطنية فاعليته في تحقيق الأهداف العليا التي تصبو إليها «الشعوب» وعلو كعبه مقارنة بالفكرة الديمقراطية التي تتهم بالعصف باستقرار مجتمعات ودول لم تخبرها من قبل وبتعريضها لأخطار الانقسام والتفتت والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني. وإذا كان ثمن الحفاظ على الاستقرار ومواصلة التحديث والتنمية الشاملة والابتعاد عن هاوية انقسام المجتمع وتفتت الدولة، هكذا يأتي لسان حال الحكومات السلطوية، هو سلب حرية المعارضين وإسكات أصواتهم في الفضاء العام وقمع المنظمات غير الحكومية المتبنية لحقوق الإنسان وإلغاء عمليات الانتخاب أو التلاعب بإجراءاتها ونتائجها إن كان لابد منها، فلا بأس.

 فالمصلحة الوطنية والأهداف العليا هي أمور لا تتوقف عند أولئك «المارقين» أو تلك «المنظمات الممولة» خارجيا، والحكومات السلطوية أدرى بشعاب شعوبها من قبل أن يكتشف الغرب الأمريكي والأوروبي الانتخابات الحرة وضمانات حكم القانون والفصل بين السلطات ومن قبل أن تتورط بعض المجتمعات والدول غير الغربية في استنساخ «النموذج الديمقراطي غير الملائم» لها وتفرض بذلك التيه على شعوبها. 

هكذا يأتي لسان حال الحكومات السلطوية، من موسكو وبكين إلى الرياض وطهران والقاهرة. وبمثل تلك المزاعم والادعاءات تصدح، وفي عنف لفظي غير مسبوق وبهجمات شرسة تسفه من الفكرة الديمقراطية، وسائل إعلامهم الرسمية ووسائل الإعلام الخاصة المملوكة لنخب اقتصادية ومالية متحالفة معهم. وبها تغزو جيوش «إلغاء الحقائق وتزييف الوعي» الممولة من السلطويين شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، لتشوه معارضيها وتنكر الانتهاكات والجرائم التي تتورط هي بها إزاء مواطنات ومواطنين يدافعون عن حقوق الإنسان وتفقد قطاعات شعبية واسعة القدرة على التقييم الموضوعي لما يحيط بها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا وتضرب بذلك حرية تداول المعلومات وحرية التعبير عن الرأي في مقتل.

ثم يتلاقى تنامي الوزن السياسي للحركات الشعبوية في الغرب الأمريكي والأوروبي، وهي حركات وإن قبلت بالإجراءات الديمقراطية كالانتخابات الحرة وتداول السلطة إلا أنها تعصف بمبادئ الديمقراطية كحقوق الإنسان والحريات وحكم القانون وتتنصل من قيم إنسانية أساسية كحماية الفارين من الإبادة والقتل والاضطهاد والقمع والظلم، مع بقاء الحكومات السلطوية واستمرار سيطرتها على مقدرات العديد من الشعوب والمجتمعات والدول خارج الغرب ليصنع وللمرة الأولى منذ سقوط أغلبية نظم الحكم الشيوعي في خواتيم القرن العشرين بيئة سياسية عالمية معادية للفكرة الديمقراطية.

اليوم، بات مستحيلا أن يمر تمسك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالمبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية الذي دفعها لتوفير ملاذات آمنة للفارين من القتل في سوريا دون «عقاب» من الناخبات والناخبين الذين انحرف قطاع بينهم (12.6 بالمائة) باتجاه التصويت لليمين المتطرف (حزب البديل لألمانيا)، أو دون ضغوط متصاعدة من قوى ديمقراطية قريبة من ميركل وحزبها المسيحي الديمقراطي ومن داخل حزبها ذاته لكي تغلق أبواب البلاد في وجه الفارين واللاجئين. 

اليوم، لم يعد مستحيلا أن تخرج إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العلن قرارات وإجراءات ذات طبيعة تمييزية صارخة، من الترحيل العنيف للمهاجرين غير الشرعيين وإلغاء السياسات الرسمية التي استهدفت الشرعنة القانونية لوجودهم ومنع دخول مواطني بعض الدول ذات الأغلبيات العربية والمسلمة إلى الولايات المتحدة إلى اضطهاد أقليات نوعية وحرمانها من حقوق المواطنة المتساوية والتجاهل الممنهج (بل والمتفاخر) فجوات ونواقص المساواة الحاضرة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعيش بين المواطنين ذوي الأصول الأوروبية وبين غيرهم (خاصة ذوي الأصول الإفريقية). 

لم يعد مستحيلا أيضا أن توظف إدارة ترامب أدوات السلطة التنفيذية، مؤيدة بعنف لفظي من اليمين المتطرف والشعبوي، لتفكيك بعض مرتكزات حكم القانون (مثل التدخلات المتتالية في التحقيقات القانونية بشأن مدى التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية 2016 وحدود التواطؤ بين حملة دونالد ترامب وبين الحكومة الروسية وأجهزتها الاستخباراتية وواجهاتها الإعلامية) ولتطبيق أجندة مجتمعية رجعية ومعادية للنساء وبائسة (القرار التنفيذي الأخير لترامب بتمكين أصحاب العمل في الحكومة والقطاع الخاص من الامتناع عن تحمل نفقات الموظفات والعاملات المرتبطة باستخدام وسائل منع الحمل).

اليوم، لم يعد مستحيلا أن تنجح الحركات الشعبوية، دون مناقشة سياسية جادة وبإلغاء مرعب للحقائق وتزييف فج للوعي، في دفع أغلبية الناخبات والناخبين البريطانيين للتصويت ضد البقاء في الاتحاد الأوروبي أو في الوصول بمرشحة اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية إلى الجولة الثانية وتمكينها بخطاب عنصري صريح من المنافسة على المنصب الأهم في بلد ألهم الدنيا قيم المواطنة الحديثة والمساواة والحرية. وبالتبعية، لم يعد مستحيلا أن نجد حكومات ذات شرعية ديمقراطية ترتكب من انتهاكات الحقوق والحريات ما لا يختلف عن جرائم الحكومات السلطوية كما هو الحال في تركيا أو نشاهد مسؤولين منتخبين في انتخابات حرة يطاردون معارضيهم ويحاصرون المجتمع المدني ويفككون مرتكزات حكم القانون ويطردون الفارين من القتل والاضطهاد كما هو الحال في المجر.

وفي مثل هذه البيئة السياسية العالمية المعادية للفكرة الديمقراطية، صارت جرائم وانتهاكات الحكومات السلطوية في روسيا والصين والسعودية ومصر وغيرها لا تعدو أن تكون «ظواهر تتكرر يوميا» لا تلتفت إليها حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي المهتمة بالمصالح الاقتصادية والتعاون الأمني مع السلطويات أو لا تستأهل سوى إدانات علنية «رقيقة» لا أنياب لها (الاعتقالات المستمرة في السعودية نموذجا والتقارير غير الحكومية التي تثبت تورط الحكومة المصرية في التعذيب في السجون وأماكن الاحتجاز مثالا). 

في بيئة سياسية عالمية كهذه، لا عجب إذا أن يفاخر السلطويون بجرائمهم، وأن ينحو بعض المنتخبين ديمقراطيا للتماهي معهم في انتهاك الحقوق والحريات (تركيا والمجر كحالتين صادمتين)، وأن يتورط فصيل من الحكومات الديمقراطية إما في تفكيك مرتكزات حكم القانون وتطبيق أجندات مجتمعية رجعية (إدارة ترامب) أو في التنصل التدريجي من بعض المبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية (حكومات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها). 

هو زمن صعود السلطوية والثورات المضادة والعداء للديمقراطية عالميا، وليس عربيا فقط.

*القدس العربي 

التعليقات