ثلاث مسلمات لا يمكن دحضها اليوم فيما يتعلق بنشأة موجات الربيع العربي:
أولها أن العرب لو يعرفون طوال تاريخهم الحديث اهتزازات كبرى أسقطت جمعا من أشرس الأنظمة الاستبدادية وأكثرها دموية ولو اقتصر ذلك على مستوى رأس النظام في مصر وليبيا وتونس خاصة.
ثانيها أن من أنجز هذه الثورات ليست النُّخب الإيديولوجية ولا الأحزاب السياسية أو القوى العسكرية أو الاستعمار الخارجي بل كانت نابعة من عمق الإحساس بالظلم والتوق إلى الحرية فصرخ المعذبون في الأرض بأن "الشعب يريد إسقاط النظام" وكان لهم ما أرادوا.
ثالث المسلمات هو أن الثورة المضادة والدولة العربية العميقة بأذرعها المختلفة وبدعم خارجي كبير نجحت في تحويل أحلام الفقراء والمسحوقين إلى كابوس مرعب تنبعث من أرجائه رائحة الجثث والدم.
هذه المسلمات الثلاث التي تلخص السنوات الخمس الماضية من عمر الأمة تسمح بوصف اللحظة الحالية واستقراء المستقبل المتوسط على الأقل بناء على المعطيات السابقة. فأهمية الحدث العظيم الذي ضرب المنطقة يؤكد أن الواقع العربي سيعيش عقوده القادمة على وقع صدى الزلزال الكبير ولن تكون آثاره إلا أحجارا ثابتة في البناء المستقبلي لصرح الأمة الحضاري الذي لم يبلغ تمامه الحديث بعد.
فإعلام الدولة العميقة ـ وقد استعاد زمام المبادرة على واجهات مختلفة من المشهد العربي ـ نجح في اختطاف الوعي الناسل عن غبار الربيع وثوراته السلمية التي حولها وكلاء الاستعمار وشركاؤه على الأرض إلى حمام دماء.
اليوم تدور كل الخطط التي يُراد لها أن تسود على الأرض حول شيطنة المنجز الثوري ولعن الربيع العربي والتذكير بمآثر الاستبداد على ضمورها خاصة في وعي الطبقات البسيطة عبر النفخ في منّة الأمن المزيف والأمان الكاذب.
لكن الخطأ التاريخي الذي ترتكبه أذرع الثورة المضادة في المنطقة هو أنها نسيت المسلمّة الثانية وهي أن المنجز الثوري لم يكن إسقاطا فوقيا بقدر ما كان نتيجة لتراكمات تاريخية فجرت القاع ونسفت أركان الدولة الاستبدادية في شكلها الجمهوري والعسكري البوليسي بشكل خاص.
أي أن الحالة الثورية السابقة لم تكن غير لحظة انفجارية أولى في عملية التغيير السياسي والاجتماعي التي لن تتوقف بعد تدشين بداية الحركة ولن تكفّ قبل أن تحقق مبتغاها وتصل إلى مرادها الذي من أجله انطلقت.
الحالة الثورية السابقة هي موجة أولى من موجات التغيير السياسي الذي يطال المنطقة ليغلق عقودا من أطوار الدولة الاستبدادية العربية، وبناء عليه فإن توقع حالة الانتكاس بالنسبة للموجات الثورية لا يصدق تحليليا على الثورات العربية الأخيرة للأسباب التي ذكرنا وأهمها أصل النشأة.
لن يكون مآل الثورات العربية غير البقاء والتمدد بحجم طبيعة الحركة الانفجارية الأولى بما هي نتيجة لتراكمات طبيعية من جهة وبما نجحت في تحطيمه من حواجز نفسية من جهة ثانية. فحاجز الخوف بما هو المؤسس الحقيقي والحامي المركزي للسلطة الاستبدادية قد سقط دون رجعة في كل العواصم العربية التي تتوفر فيها شروط اللحظة الانفجارية الحاسمة.
أضف إلى ذلك أن شروط التغيير السياسي بما هو مطلب شعبي لا تزال قائمة بسبب عودة القبضة الأمنية ومحاربة الحريات ومصادرة الرأي المخالف وخاصة بسبب تمكّن الفساد من كل مفاصل الدولة الإقليمية التي وضعت أسسها معاهدة سايكس بيكو.
واهم إذن من يعتقد أن الربيع العربي قد قال كلمته الأخيرة وواهم أيضا من يعتقد أن حركة القاع يمكن نسفها بعمليات التجريف على السطح فلا نظرية المؤامرة ولا مقولة الخريف الإسلامي ولا غيرها من المقولات التي تسعى إلى إقناع الجماهير بأننا لسنا أهلا للثورات ولا أهلا للديمقراطية قد نجحت في مسعاها لسبب بسيط جدا.
السبب في فشل الحملات الإعلامية على ثورات الربيع العربي هو أنها لم تدرك أن هذه الثورات لم تطالب بالديمقراطية ولم ترفع شعارات إيديولوجية بل طالبت فقط بمبدأين أساسين وهما العدل والحرية بما هما شرطان مركزيان من شروط الاجتماع البشري.
وبناء عليه فإن قمع المطلبين عبر استعادة الدولة العميقة لمنظومة القمع من ناحية ولشبكة الفساد من ناحية أخرى كما هو الحال في مصر مثلا لن يزيد المطلبين إلا حضورا في ذهنية الشارع العربي وفي مطالبه القادمة.
خاصية أخرى ستكون مركزية في تحديد طبيعة الموجات الثورية القادمة تأسيسا على الشراسة والتوحش اللذين جوبهت بهما ثورات الجماهير السلمية وهي خاصية النزوع إلى المحاسبة والقصاص ممن تورطوا في سفك دماء آلاف الأبرياء من المتظاهرين المدنيين.
لن تتهاون الموجات الثورية القادمة مع من تلاعب بمصير الأمة وبنزعتها الفطرية إلى التحرر والانعتاق ولا خيار أمام من يريد أن يكون جزءا من المشهد العربي القادم سوى الإذعان لشروط التاريخ ولتعطش الإنسان العربي لما به يكون الإنسان إنسانا: الحرية أولا والحرية أخيرا.
عن عربي21