روى الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن، في مستهل كتابه الأخير «السعودية- الموروث والمستقبل- التغيير الذي يعزز البقاء» قصة أميرة سعودية شابة سمعت بالإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الثانية وسيفه الأجرب، الذي اشتهر بقصيدة وعادت قصته إلى دائرة الاهتمام قبل سنوات، حينما أعاد إهداءه ملك البحرين للراحل الملك عبدالله في احتفال كبير، فسألته الأميرة الشابة، وهي والملك الراحل والأمير المؤلف أحفاد للإمام صاحب السيف، عن صلة قرابتها به!
اتكأ تركي بن عبدالله على هذه المفارقة، ليستهل بها كتابه الذي صدر حديثاً، وأعُدّه ثاني أهم كتاب يتناول «أزمة» الهوية السعودية وغربتها حتى بين أهلها، بعد كتاب الصحافي الباحث المصري الراحل محمد جلال كشك «السعوديون والحل الإسلامي»، الذي صدر قبل أكثر من 30 عاماً، في لحظة مفرقية، صعد فيها سؤال الحل الإسلامي مع عودة الزخم للإسلام السياسي، وانتصار نسخته الطائفية في إيران، وحان وقت إعادة الكتاب إلى رفوف المكتبات المدرسية، كي يعرف الجيل الحالي ويفتخر بعقل نقدي لتاريخ بلادهم والمشروع «الإسلامي» الذي صنعها.
قلت اتكأ الأمير المؤلف على قصة الأميرة الشابة للدلالة على حال مقلقة، وإيجاد مدخل لكتابه المهم الصادر في لحظة مفرقية أخرى هي انقطاع صلة الجيل الحالي من السعوديين «بحال الأسلاف وما أنجزوه وورثوه (...)، والتي تصل أحياناً إلى الإهمال والتشكيك فيه، بل وحتى النيل منه»، والتي أعتقد أنها نتجت من جملة من الأسباب، أهمها حال الاسترخاء بعد عقود من الاطمئنان والاعتماد على ثروة النفط، ثم انهيار النظام العربي القديم، الذي تشكل في المرحلة الزمانية نفسها التي عادت فيها الدولة السعودية الحالية، من دون أن تكون جزءاً منه، ولا صناعة ناتجة من تداعيات سقوط الدولة العثمانية وهيمنة الاستعمار الغربي، وواكب هذا الانهيار صعود العنف المنسوب ظلماً ليس للإسلام وحده، وإنما للموروث الذي قامت به وعليه المملكة.
الكتاب يأتي صيحة من أمير مواطن يدعو ليقظة «سعودية» تحيي موروث الأجداد وتفتخر به، وتسعى للعيش بمقتضاه، والذي نجح في بناء دولة استعصت على الهزيمة أمام تحديات العصر القاسية، وحقق «وحدة عربية» حقيقية، وحوّل مواطني الجزيرة العربية، على مختلف مناطقهم وقبائلهم ومشاربهم إلى «أمة» ذات هوية واحدة، ولكن الأهم عنده أنه حمى وأبقى «الشريعة الإسلامية» أساساً للحكم، ويرى أن هذا هو الإنجاز والموروث الأهم للسعوديين، الذين استطاعوا «حتى الوقت الحالي على الأقل أن يعكسوا اتجاه التيار» الذي اقتلع مبدأ التحاكم إلى الشريعة أو عوّمه في معظم الدول الإسلامية، بل إنه يقدم ملاحظة مهمة، هي أن ما تبقى من «شريعة» لدى بعض الدول الإسلامية هو مما تبقى أصلاً من شريعة احتكمت إليها الدولة العثمانية منذ تأسيسها، ثم اضطرت تحت ضغوط العصرنة والقوى العظمى إلى اختزالها وإخراجها من مفاصل الحكم والسياسة، وذلك في آخر قرن من عمرها، هذا القليل المتبقي هو ما ورثته الدول العربية، التي خرجت من تحت عباءتها إلى عباءة الاستعمار الغربي، غير أن المشروع السعودي نجا من ذلك، إذ عاد إلى أصل الشريعة وتراثها الذي تشكل في القرون الثلاثة الأولى، وهي وإن لم تحقق ذلك بكماله بعد، تبقى الدولة الوحيدة القادرة على التوفيق بين الشريعة والمعاصرة من دون أن «تعوم» أحكامهما أو تختزلها. ولكن هذا يحتاج إلى إحياء جديد لا يقل عما فعله الشيخ ابن عبدالوهاب والإمام ابن سعود قبل ثلاثة قرون، وذلك شريطة الخروج من دائرة المدرسة الواحدة، التي توهمنا أنها منهج السلف فأضحت «الحزب السلفي»، إلى سعة الإسلام التي سادت في القرون الثلاثة الأولى، فالشريعة لن يقصيها في السعودية علماني متوهم ولا ليبرالي غير موجود، وإنما فقيه متعصب لقوله وجماعته جعلها جامدة فبدت وكأنها معاندة للعصر.
تركي بن عبدالله لا يريد في كتابه العودة إلى القيم وحدها بوصفها فكرة نظرية، وإنما إلى حياة وممارسة يعيشها الناس وفي أروقة الحكم، فيشكو أنه «بدأ تأثير تلك القيم في المجتمع بالتلاشي والتخلخل في العقود الأخيرة، بدأنا نفقد وهج موروثنا، بل إن ذلك وصل إلى تصرفات وتعاملات من جانبنا تناقض موروثنا وأخلاقياتنا»، فيتحدث في صفحات الكتاب عن فقدان ثقافة العمل، والتمييز، والفساد، وضعف الشفافية، ولكن أكثر ما يقلقه هو الهجمة على الموروث الأهم، وهو الشريعة الإسلامية، التي يعتقد أنها القانون الذي نجحت فيه البلاد ونجت بفضله مما تعرضت له بلاد عربية أخرى خلال عواصف الربيع العربي، إذ يؤمن بأنه ما من بلد يمكن أن ينجح من دون الاحتكام صدقاً إلى قانون أساسي، بغض النظر عن ماهية ذلك القانون، وقدرنا نحن -السعوديين- أن تكون الشريعة هي قانوننا الحاكم.
ولكن كيف تمكن حماية ذلك وتحقيق رغبة الأمير التي شرحها في كتابه؟ وأحسب أن غالبية السعوديين يوافقونه عليها ونحن في حال غريبة، إذ إن الموروث يتعرض بالفعل إلى هجمة غير عاقلة من بعضهم، هذا إذا لم تكن سيئة النية، فأمامنا عدو يستهدفنا بالفكر والعنف والقتل، تشكل يوماً في هيئة «القاعدة»، والآن في هيئة «داعش»، وقبلهما ومعهما في خطاب متطرف يستخدم الموروث نفسه، الذي يدافع عنه الأمير، الرموز نفسها، ويتداخل مع الخطاب نفسه، فاستعرت حرب على ذلك الخطاب منا، تقول إنها تدافع عما يدافع عنه الأمير نفسه، تدافع عن السعودية والوطن، وتزعم أنها هي الأجدر بتفسير الموروث، ولكن قذائف حربها الفكرية تسقط تارة في ساحة ابن عبدالوهاب، وأخرى في ساحة ابن تيمية، وتتسع أحياناً لتتهم مبادئ أساسية في بناء وبقاء الدولة والفكرة السعودية: الجهاد، الدعوة، الأمة، بل حتى الشريعة، يخرج أحدهم فيتهم «الإسلام السياسي» متجاهلاً أنه ليس هناك إسلام غير سياسي، وأن الدولة العربية السعودية هي أم الإسلام السياسي وأبوه، وهي التي أبقت جذوته مشتعلة تعطي الأمل بقوة الإسلام بين المسلمين، وتحمي فكرة الحكم بالإسلام في زمن غلبة العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
هذه الهجمة، لو حققت مقاصدها، ستفقد السعودية موروثها الذي صنعها، ذلك الإسلامَ الإيجابيَّ الإصلاحيَّ الذي يحيي النفوس ويحركها للبذل والعمل، والجهاد أيضاً، لا إسلاماً ميتاً مهمشاً ضعيف التأثير، حذر منه ذات يوم عمر بن الخطاب، إذ رأى رجلاً يمشي بضعف منحنياً متماوتاً، فضربه بالدرة وقال له: «استقم، لا تمت علينا ديننا».
ولو فقدنا الموروث فالوحدة مهددة، فهذه الوحدة صنعها ذلك الموروث، ولن تبقى «الأمة»، إذ ستعود من بعدها إلى هوياتها الصغيرة الضئيلة.
جيل اليوم الذي لا يعرف أسلافه ولا يعيش قيمهم، يحتاج إلى ما يذكره بهم ويحيي قيمهم، لا من يشككه فيها فيزيد طينهم بلة، ويزيد حيرتهم، فيدفعهم إلى خلخلة وتخلٍّ حتى لا يبقى وطن ولا فكرة ولا مشروع، وإنما مصالح أفراد وعوائل وقبائل وتيارات.
«أولى خطوات طريق العودة إلى المسار الأسلم (وأنقل هنا من كتاب الأمير بتصرف) تبدأ بالوعي والمعرفة والتقدير للموروث وللجهود والتضحيات التي بذلها الجميع لبنائه، فلا بد أن يكون لدينا، على مستوى الأجيال والمشارب كافة، معرفة بهذا الإرث وولاء له واعتزاز به، لأن كل ذلك ملك لنا جميعاً ومن صنعنا لا ملك لمجموعات أو أفراد بعينهم، وأنه قام بمشاركة أسلاف الجميع، ولم يكن بمستطاع ابن سعود وابن عبدالوهاب صنع هذا الكيان وحدهما