[ الروائية صفاء الهبل انتقدت السلوك المخادع والمضلل للمثقفين في تعاطيهم مع المرأة ]
في كتابها الجديد" ثلاثون حربا.. وحب"، لا تسرد الكاتبة والروائية اليمنية الشابة "صفاء الهبل" تفصيلات وتمظهرات الحرب المستعرة في البلاد منذ سنوات، وعلى نحو حكائي مجرد. إنها تأخذ القارئ معها عميقا في تمثلات مختلفة لضدية ومتناقضة الحرب والحب، عبر نصوص مفتوحة، تتكشف عن مزواجة مدهشة بين السردية الأنيقة والشعرية العالية، وتفترق فنيا وبنائياً عن إصدارها الروائي الأول "قدري فراشة"، في العام 2013.
وفي الكتاب الصادر مؤخرا عن دار "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن، والمعروض ضمن عناوين معرض الكتاب الدولي مؤخرا بالعاصمة عمّان، ومعارض عربية مؤخرا، تثير صفاء استفهامات غير ظاهرة، كما تحاول زحزحة مفهوم الحرب إلى أبعد مما هو منظور زمنيا وبنيويا، إذ تتجاوز الحرب، وفق رؤيتها، معنى الصراع باستخدام الآلة القاتلة، إلى صراع الإنسان مع عالمه الداخلي، وصراعه مع كل ما هو محيط به.
واستثناء، تعرض صفاء كتابها للبيع لدى مكتبات شهيرة بصنعاء، معلنة تخصيص المتحصل من ريعه لصالح مبادرة "كن إيجابيا"، والتي تقدم من خلالها نشاطات إنسانية مهمة، تقول عنها إنها تعبير عن جوهرية ما تحاوله في حياتها.
إلى تفاصيل الحديث معها:
* أربعة أعوام ونصف العام من الحرب تقريبا. هذا ما نقدره نحن، وحدك من خرجت معلنة أن هناك ثلاثين حربا.. كيف لنا أن نفهم تقديرك هذا في سياقه الزمني والمكاني، كما في سياقه الجمعي أو الذاتي؟
** الحروب التي يخوضها الإنسان ليست فقط بالدبابات والطائرات والقذائف، بل تذهب إلى ما هو أبعد من صراع الآلات، إلى صراع خارجي بين الإنسان مع ما حوله: قدرته على التكيف، التغيير، وصراع داخلي مع الذات في صقلها والسمو بها، واتخاذ القرارات، وتبني قناعات ما، وتطوير الحواس معا.
جميع الصراعات تتحول إلى حروب شرسة. وفي تقديري فإن ما لا يقتل الإنسان يصقله. وهنا تأتي الـ30 من العمر، المرحلة الفاصلة في حياة أي امرأة التي يفترض أن تصل لها وهي في قمة التصالح مع ذاتها، أو تمكَّنت منها سكينة ما رغم الحروب والصراعات التي تدور حولها، حتى وإن كانت حربا تطير فيها الرؤوس وتنغمس فيها الأصابع بالدم.
الحب في الحرب باهض الثمن!
* في مواجهة كل هذه الحروب الـ30، وفقا لما ذكرتِ أنتِ،ِ تبدت لازمة الحب بمعناه الوجودي والإنساني والكوني المطلق، في مجمل نصوص الكتاب، كيف أمكنك موضعة الحب كلازمة أو لنقل معادلة، وسط ما شعرنا به معك من قسوة ورعب، وما رأيناه من الأشلاء والأرصفة والجنائز والجوع... إلخ؟
** السلام بداية الحب، أن تتنازل عن رغباتك أو تتمسك بها ستحتفظ لك بما تحب دون خدش أو جرح، روحيا كان أو جسديا. فقط عليك أن تقرر!
وأن تحب في الحرب، فهذا يعني أنك دفعت ثمنا باهضا من روحك حتى وصلت إلى هذه المرحلة العليا من السلم والاستسلام.
ليس بالضرورة أن الحب، حب رجل لامرأة أو العكس، بل الحب المرادف للضمير، في معناه الواسع، الراسخ في فطرتنا الأولى، قبل التلقين وتلوث التطرف.
مثلا: كيف تحافظ على حياة عصفور؟ كيف تحيط الأشجار بالعناية؟ كيف لك أن تحب مقعدا تفضل الجلوس عليه، أو حتى كتاباً يرافق لحظات الوحدة. هكذا ستحب التفاصيل التي تضج بالحياة، سوف توهب تلقائيا السلام وستحب إلى الأبد.
ولو أن المتحاربين أحبوا بلدانهم، ما دفعوا الأرض والإنسان إلى الغرق في الدم والأشلاء وزينوها بالجنائز.. لو أحبوها فعليا، كانوا أغرقوها بالفل والمدارس وملاعب كرة القدم.
* تعتقدين بأن الحرب تجعلنا أكثر تشبثا بالحياة والحب، ألا يبدو هذا القول مثاليا بالنظر إلى ما تخلفه الحرب من حقائق مرعبة في الواقع؟
** مثاليا إن كنت لا تعيشه، أما إن كنت محاربا يخرج من كل مشكلة ليعد الخسائر الفادحة، فالأمر مختلف. نحن نخسر بشكل أو بأخر.
ننهزم بشكل واضح ومفضوح حتى في السلم، وإن أنكرنا ذلك! أما في الحرب، فكلنا بالهزيمة. ولو تساءلنا ما الفرق بين الأحياء والأموات في الحرب، لأمكننا بوضوح معرفة أن الفرق الوحيد كيف ينتشل كلا منا ضميره من تحت الأنقاض، وكيف ينهار جسدك وأنت تخبئ قلبك بين كفيك مخافة أن يفقد نبضة واحدة، فيموت!
لذا نتشبث بالحياة ونحبها كأننا ولدنا للمرة الأولى لنعوض ما فات، لنعيد حلاوة اللحظات التي عشناها خلسة. وليس هناك أجمل مما قد تعيشه مع الأسرة- مثلا- كالاستقرار، الأمومة، أن تعطي أسرتك كل وقتك واهتمامك دون أذى أو منة، ودون إبرام صفقة مسبقة برد الفضل والجميل. كل هذا، على الأقل، قبل أن يدركنا الموت بقذيفة أو طائرة.
أبطال لن يذكرهم التاريخ
* داخل طاحونة الحرب وتحت رعب قصف الطائرات وأشكال الموت اليومي، كان واضحا عنايتك بسرد تفاصيل تخص أبطال نصوصك وهم من الأطفال والنساء، على الأقل. إلى أي مدى تعتقدين لم تنجح الحرب في قهر رغبتهم بالحياة؟
** هؤلاء ليسوا أبطال نصوصي، هم أبطال حقيقيون لن يذكرهم تأريخ، ستخلدهم هذه الأرض التي أثبتوا على ظهرها أن الحرب لها ضحايا آخرون، ما زالوا أحياء، وسيشهدون على ما انتزع منهم.
صحيح إنهم الأكثر ضعفا من وجهة نظر الشر، لكنهم الأكثر انتصارا للخير ومساندة له، فالحب الذي ينضحون به ليس لأجل أناهم، بل لأجل أسرهم، أطفالهم؛ ففي خضم الحرب الشاملة حروب صغرى يخوضونها وكل فرد على حده، جميعهم يقاتلون في سلسلة طويلة: للحياة لا للموت.
الكتابة اجتزاء من الروح
* ببساطة كان ملحوظا، في كتابك، صيغة كتابية تجريبية لا تعطي شكلا من الالتزام بقالب كتابي ما، بعكس الالتزام الظاهر الذي تجلى في رواية "قدري فراشة" الصادرة عام 2013.. هل كان هذا موقفا ما، أردت تسجيله داخل ما يثار حول الأشكال الكتابية الأدبية؟
** ما زلت غير مهتمة بالقولبة، وأي شكل من أشكال القيود التي ستحول بيني وبين التحليق بين السطور سأفككها بتلقائية شديدة.
منذ البدء لم أفكر ماذا سأكتب؟ استرسلت، فكانت النتيجة ما كان في النهاية.
قد يقيم البعض بعض القوالب والأشكال الكتابية بالسهلة أو الصعبة، لكن في الحرف لا سهل ولا صعب، هناك فقط من يجتزئ من روحه في كلماته وينسلخ بالفكرة من اللاشيء. باعتقادي الكاتب مثل الرحالة المستكشف يبحر في رحلته ولا يدري في أي ميناء أو مرفأ سيكون.
* أيضا، كان ملحوظا، محاولتكِ تفكيك مفاهيم لها سياقاتها الاجتماعية، وخصوصا ما يتعلق بالموقف من المرأة في مجتمع ذكوري؟
** ما يتعلق بالمرأة في نصوصي، لم أقل شيئا مختلفا عن ما هو مفهوم ومعروف، وربما أكون قد كررت نفسي في هذه النقطة، ولا بأس أن نعيد إنتاج ذواتنا وصقل أفكارنا بالتكرار في بعض وجهات النظر أو الأفكار، فما بالك، أن تكون الفكرة كائنا حيا متمثلاً بأهمية المرأة.
المثقف مزيف!
* أظهرتِ في نصوصك ما يشبه الإدانة وتوجهت بها لفئة المثقفين، حيال تعاملهم مع قضايا تتصل بالمرأة.. هل بالفعل ما تزال المرأة تشكل عبئا بالنسبة للمثقفين؟!
** المرأة ما تزال تعتبر عبئا اجتماعيا، رغم تخلص الكثيرات من هذا الاعتقاد وإزاحته عن بيئتهن المحيطة. لكن السواد الأعظم يحتاج إلى دفعة توعوية ليرتفع مستوى أهمية نصف المجتمع للنصف نفسه والنصف الآخر، هذه حقيقة لا ينكرها العامة، وإن أنكروها فهم صادقون في اعتقادهم.
وبالعودة لجوهر سؤالك، أرى أن المشكلة في المثقفين "الذكور" الذين يبطنون ويظهرون، والحقيقة أنهم فيما يجاهرون بمناصرتهم المرأة، ويتباهون بانفتاحهم على الأفكار التي تطالب بها المرأة، يمكن بسهولة اكتشاف كم يكبتون نساءهم في المنازل!
هذا سلوك مخادع ومضلل. فإذا كنت تروج لأشياء تعتقدها ولا تنفذها، فلا ترزح على غباء وجهل الناس، فإنهم يدركون الحقيقة من الزيف، حتى لو كان حرفا مجردا من ملامح لغة الأعين والجسد. وهنا يظهر المثقف المزيف بمظهر الأحمق؛ يجادل ويحارب نفسه في العلن. ومن يعتقد بأنه جمهور يتحول إلى متفرج. على المثقف أن ينتصر للقضايا أمام نفسه قبل أن ينتصر لها في العلن.
الحرب.. تَصّقُل وتختصِر
* الحرب تكشف الأسوأ.. لكنها تصقل الأجمل، هكذا تقولين ضمن نصوصك، هل صقلت الحرب صفاء؟
** ربما، صفاء نقطة في بلد كبير يصقل، ولست بعيدة عن التأثير والتأثر. ومهما حدث في السنوات الخمس إلا أن الصقل لا يكفي؛ فما زالت الحرب تستعر، والمعاناة هي من تصقل الفرد، إن أدرك تفاصيل وجعه جيدا.
الحرب تختصر الزمن، وتوصل الإنسان لمراحل عالية من الشعور بالآخرين حتى وإن كان وحيدا معلقا في رأس جبل.
* بين "قدري فراشة" روايتك الأولى و"ثلاثين حربا.. وحب".. ثمة خيط افتراق وتحول موضوعي وبنائي؟ كيف تقرأينه أنتِ؟
** أحاول استشاطة إنسانيتي أكثر، وتتبعي للإنسان في واقعه قبل حلمه وخياله. واعتقد أنه لكي نفكك المشكلة علينا فهمها. لذلك أسعى لفهم الحياة أكثر عبر تفاصيل حقيقية لا تشبع بجوهر الإنسان فحسب، بل أشبع حرفي لينضج أكثر.
في النشاط الإنساني.. وجدتني
* دعينا ننتقل معك الى النشاط الحقوقي الإنساني، واشتغالك على هذه الجزئية عبر مبادرة "كن إيجابيا"، وما إذا كان هذا النشاط له تأثيرات مباشرة في الواقع على النشاط الكتابي وخصوصا كتابك الجديد؟
** نعم، يمكن القول بهذا، وقبل كل شيء لا يمكن للإنسان التجرد من جوهره.
ومن خلال رحلة البحث عن صفاء في غياهب نفسي وجدتني في أصل ما خلقنا لأجله، وكل ما يفعله الكاتب في حياته الأسرية، الاجتماعية، العملية يؤثر على طريقه وطريقته، لكن في زحمة التفاصيل وزخم الحياة يبقى الإنسان لاجئا إلى جوهره. ومعلوم أن الإنسانية فطرة لا يمكن أن يقتلها سوى القتل وإحيائها كالماء. وهذا ما جعل من الإنسان بطلا حقيقيا، مؤثرا على شخصيتي وحرفي.
* نفهم من حديثك أن النشاط الإنساني المنظور في الواقع، يمكن أن يكون حافزا مهما للفعل الإبداعي الكتابي؟
** أعتقد أن النشاط الإنساني لا يصنع كاتباً مائزا فحسب، بل هو حافز للحياة وبوابة رحمة للتكافل الاجتماعي، كما هو حافز ممتاز لمن يملكون ملكة الإبداع الكتابي.
وفي النهاية لا يمكن صناعة الإبداع ما لم يمتلك الفرد ملكة وشغف للبحث وراء حافز ما: فكرة، إنسان، قد يكون بطلا لما يكتبه.
* ختاما، يبدو من المهم معرفة ما إذا كنتِ تعملين حاليا على مشروع كتابي آخر؟
** كعادتي لا أخطط لكتابة شيء، أنتظر الفكرة لتهطل عليّ كيفما تشاء.