[ القيادي السلفي هاني بن بريك مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد ]
خيبت الحركة السلفية في اليمن توقعات الكثير من المراقبين لمسارات الحركات السياسية والدينية اليمنية بصفة عامة، والمهتمين بدراسة نشاط الحركة السلفية ومسارها على وجه الخصوص بالمآلات غير المتوقعة وحالة التشرذم والانقسام إلى أكثر من جماعة وحزب لا يجمعها غير الادعاء بتمثل الدعوة السلفية، وتفرقها ممارسات الواقع وتشعب المسالك.
"الموقع بوست" يزيل في هذا التحقيق الاستقصائي الكثير من ضباب الحيرة والغموض المحيط بدور ونشاط الحركة السلفية في اليمن، ويجدر بنا التنويه إلى أننا فشلنا في إقناع القائمين على المراكز السلفية التي زرناها بالسماح لنا بالتقاط صور بحجة أن التصوير محرم شرعاً، كما اعترض أغلبهم على تسميتهم بالحركة مفضلين كلمة دعوة.
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي من خلال الرصد التسلسلي للأحداث الجيوسياسية التي شهدتها اليمن منذ اليوم الأول من الألفية الثالثة، واستناداً للحقائق التاريخية المجمع عليها لطبيعة الصراع السياسي والمذهبي في اليمن، الخطأ القاتل الذي وقع فيه الشيخ مقبل الوادعي منذ اللحظة الأولى لتأسيسه "دار الحديث" بدماج محافظة صعدة.
الحركة السلفية التي بدأت حلماً يتأبطه الشيخ مقبل الوادعي تحولت بعد أربعة عقود من زرع الحلم إلى عدة حركات وتكتلات وجمعيات يتأبطها ألف شيخ وممول وقطب ولا جامع بينها سوى ذكرى البدايات وكلمة السلفية.
عباءة الوادعي
يعتبر الشيخ مقبل بن هادي الوادعي المولود في قرية دماج من قبيلة وادعة في محافظة صعدة شمال اليمن في عام 1933 مؤسس الحركة السلفية في اليمن.
نشأ مقبل الوادعي يتيم الأب فأرغم في عهد حكم الإمامة لليمن كغيره من الأيتام على الدراسة في مسجد الهادي بصعدة الذي يدرس المنهج الزيدي الهادوي، وبعد قيام الثورة رحل إلى السعودية حيث التحق بمعهد الحرم المكي ثم درس أصول الدين في الجامعة الإسلامية وحصل منها على درجة الماجستير في علوم الحديث، لكن السلطات السعودية اعتقلته بتهمة التراسل مع "جهيمان العتيبي" زعيم ما سمتها السلطات السعودية حينها بفتنة جهيمان داخل الحرم المكي ورحل إلى اليمن ليستقر به المقام في مسقط رأسه قرية "دماج" محافظة صعدة.
الدخول من بوابة الإخوان المسلمين
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي شرع الشيخ مقبل الوادعي الذي حظي بترحاب ودعم أبناء قبيلته، كما ورد على لسانه، بتدريس أصول الحديث في مسقط رأسه بقرية "دماج" دون أن يستقر بعد في مكان محدد، ولأن تلك الفترة مثلت ذروة المجد والقوة للمعسكر الشرقي الاشتراكي وكانت الحركات المسلحة المدعومة من النظام الماركسي في الجنوب تشن حرب عصابات على الأنظمة المجاورة لدولة الجنوب التي تعتبرها رجعية وعدوة للثورة الاشتراكية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ونظام على عبد الله صالح القبلي الحاكم لشمال اليمن، ولأن حركة "الإخوان المسلمين" في اليمن كانت آنذاك الحركة الوحيدة التي تملك توجهاً أيديولوجياً متصادماً مع النظام الماركسي في الجنوب، وهو الأمر الذي وجد فيه نظام علي عبد الله صالح ضالته وقدم لها الدعم لدفعها لقتال النظام الماركسي فيما عرف حينها بحرب المناطق الوسطى في اليمن. لم نعثر عند إعدادنا لهذا التحقيق أي محاضرات أو خطب أو فتاوٍ للشيخ مقبل الوادعي توضح موقفه من مواجهة التمدد الشيوعي في تلك الفترة، وذلك على الأرجح أن الرجل ركز كل جهوده الدعوية لتعليم مفاهيم العقيدة الإسلامية الصحيحة.
لم تجد جماعة "الإخوان المسلمين" والتي كانت تتولى إدارة المعاهد العلمية وتحظى بدعم نظام صالح أي ضير من الترحيب بعودة الوادعي ودعمه وتسهيل مهمته، فسلمته إدارة المعهد العلمي في دماج الذي حوله الوادعي إلى مركز "دار الحديث" لاحقاً.
عن دعم حركة الإخوان المسلمين للوادعي يقول الباحث اليمني أحمد الدغشي "إثر عودته بدأ في تأسيس مركز لعلوم الحديث في قريته بمحافظة صعدة، ولقي دعما وترحيبا في بداية الأمر من الحركة الإسلامية الأكبر (الإخوان المسلمين)".
مركز دار الحديث
بضع سنوات فقط من تأسيس الوادعي لمركز دار الحديث في منطقة "دماج" معقل الفكر الزيدي الهادوي بمحافظة صعدة شمال اليمن، كانت كفيلة بأن يصل صوته من خلال محاضراته المسجلة إلى كل ربوع اليمن فقصد مركزه مئات من طلاب العلم من مختلف المحافظات، بعضهم تركوا مواصلة تعليمهم في الجامعات والمدارس الحكومية وتوجهوا إلى مركز دار الحديث لتلقي العلوم الشرعية على يد الوادعي.
يقول "زيد القدسي" أحد طلاب دار الحديث إن الدار بمحافظة صعدة كان قلعة السلفية في اليمن، يتم فيه تعليم الدعوة السلفية، ويفد إليه طلاب العلم من مختلف مناطق اليمن ومن دول العالم، وتخرج منه المئات من المشايخ الذين عادوا إلى مناطقهم لتأسيس مراكز لنشر الدعوة السلفية في مناطقهم ومواصلة ما بدأه الوادعي رحمه الله.
في حديثه لـ"الموقع بوست" نفى القدسي أن يكون للحركة السلفية أي أطماع سياسية أو دنيوية، فهي حركة دعوية تقتفي أثر السلف الصالح وترشد الناس للعمل بتعاليم العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتحرم النشاط السياسي أو أي دعوة تشق صف المسلمين، وحرم أيضاً الخروج على ولي الأمر، ولو كان ظالماً، لأن الخروج عنه -حد قوله- يؤدي إلى مفسدة أكبر وما نعيشه اليوم من اقتتال وسفك للدماء يؤكد سلامة رؤية الحركة وصوابية نهج السلفية في هذا الجانب والذي هو منهج نبينا المصطفي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وصحابته الكرام من بعده.
اعتذر القدسي عن تفسير حالة التشرذم والفرقة التي أصابت الحركة السلفية وتناقض مواقفها حول مقاتلة المليشيات الحوثية أو "الروافض" كما يسمونهم بين مؤيد ومعارض وصامت أو التعليق على ما نسب للشيخ محمد الإمام من ثناء على حركة الحوثي في رسالة نقلها نجله لمهدي المشاط رئيس المكتب السياسي للحركة الحوثية،(سنتطرق لمضمون ذلك اللقاء لاحقاً)، مكتفياً بالتأكيد على سلامة المنهج.
الخلاف مع حركة الإخوان
أولى المفاجآت التي فاجأت الحركة السلفية بها الشارع اليمني والمراقبين وأثارت شكوكهم حول مصداقية ادعاء الحركة السلفية تحريم النشاط السياسي، تمثل في شن الشيخ مقبل الوادعي عبر سلسلة خطب وفتاوى هجوماً لاذعاً على حزب الإصلاح ذي التوجه الإسلامي مجرداً إياه من أهلية الحديث باسم الدعوة الإسلامية واتهمه باتخاذ الإسلام وسيلة لتحقيق مآرب سياسية، ونال الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس شورى التجمع اليمني للإصلاح ورئيس جامعة الإيمان التابعة له ومنهجها وطلابها النصيب الأكبر من ذلك النقد اللاذع والذي لم يدع مثلبة للزنداني إلا وتناولها بالنقد الحاد، وتعد فتواه المعنونة بـ"البركان لنسف جامعة الإيمان" من أكثر فتاوي الشيخ مقبل غرائبية وجنوحاً، (عرف الشيخ مقبل الوادعي بخطبه وفتاويه المثيرة للجدل).
فحزب الإصلاح بمرجعياته يعد الأقرب للحركة السلفية (كلاهما يمثلان المذهب السني)، ونقاط الاتفاق بينهما أكثر بكثير من مسائل الخلاف المحدودة والمحصورة في الجزئيات، وهي تعد في نظر المراقبين أمور طبيعية ولا تفسد للود قضية ولا تستوجب إصدار فتاوٍ قد تدفع بعض طلاب الوادعي المتطرفين لممارسة العنف لترجمتها.
ظل السؤال عن دوافع خطب وفتاوي الشيخ مقبل الوادعي النارية ضد حزب الإصلاح معلقاً في جدار الحيرة بلا إجابة لدى غالبية اليمنيين، وإن بدأت الشكوك تقترب من نفطة اليقين بعدم براءة ذلك الاستعداء غير المبرر من دوافع سياسية خصوصا بعدم تعرض الشيخ مقبل لجماعات دينية أخرى في الساحة اليمنية بالنقد مثل جماعة "الصوفيين" وجامعة "مرعي" في محافظة الحديدة ورباط "المصطفى" في تريم بمحافظة حضرموت.
فحزب الإصلاح لا تمثل الحركة السلفية أي خطر في حساباته السياسية، ولم يسبق لإعلام الحزب أو لمشايخه الدينيين أن تعرضوا للحركة السلفية بأي نقد أو أثاروا أي خلاف، فالإصلاح وإن جعل من الالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية معياراً ضابطاً لنهجه وسلوك أعضائه، لم تكن المسائل الفقهية تتصدر قائمة اهتماماته التي استحوذ النشاط السياسي على الحيز الأكبر منها، ما يعني انتفاء أي عوامل للخلاف مع حركة تحرم السياسة وتزعم أن شغلها الشاغل وباعث وجودها الوحيد هو الدعوة وتعليم العامة أصول العقيدة الصحيحة.
كما أن جامعة الإيمان هي جامعة أهلية يتلقى طلابها تعليمهم وفق قانون الجامعات اليمنية وتحت إشراف وزارة التعليم العالي، ويعكف رئيسها الشيخ الزنداني على أبحاثه المتعلقة بإثبات الإعجاز العلمي في القرآن، وليست مدرسة فقهية حتى يدخل الشيخ الوادعي معها في خلاف فقهي.
بالعودة إلى المرحلة التاريخية التي بدأ فيها الشيخ مقبل الوادعي في مهاجمة الإصلاح وجامعة الإيمان عبر خطبه النارية وفتاواه المثيرة للجدل، تبين أنها كانت في المرحلة التي أعقبت إعلان حزب الإصلاح فض شراكته في السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم (1994--1997)، والتي نتجت عن تحالف الحزبين في حرب صيف 1994 التي أقصت الحزب الإشتراكي اليمني شريك حزب المؤتمر في إعلان الوحدة اليمنية 22مايو/أيار 1990.
خروج حزب الإصلاح من الشراكة في السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وتأسيسه مع أكبر الأحزاب المعارضة تكتل "اللقاء المشترك" الذي مثل عبر خطابه الإعلامي القوي المعارض شوكة في حلق نظام صالح، خصوصاً أنه بدأ ولأول مرة بفتح ملفات كانت محظورة تتعلق بطبيعة نظام صالح وأسلوبه في الحكم والتوريث.
لم يكن مستغرباً أن يلجأ الرئيس صالح حينها لحيلته الماكرة التي جبل عليها للنيل من خصومه السياسيين وكسر شوكتهم من خلال تبني ودعم تيارات تواجههم في حلبة الصراع نيابة عنه.
وتحت تأثير الصخب الإعلامي المصاحب للصعود القوي للحركة السلفية وصدى خطب وفتاوى زعيمها الشيخ مقبل الوادعي، قدم صالح دعمه المالي والإعلامي للوادعي وطلاب مركزه وصب المزيد من الزيت على نار الخصومة بين حزب الإصلاح والسلفيين، ولأن السلفيين يعوزهم الإدارك الكافي لألاعيب السياسة لم يفهموا ما يرمي إليه علي عبدالله صالح، فكانت نار خصومتهم لحزب الإصلاح باهتة ولم تحرق سوى آمال صالح في الانتقام.
ذروة المجد أم بداية النهاية؟
مع بزوغ شمس اليوم الأول من الألفية الثالثة، كان الآلاف من طلاب ومشايخ الحركة السلفية وأنصارها يعيشون ما يمكن تسميته ذروة المجد للحركة السلفية في اليمن، ويتحدثون عن رمزها المجدد بإجلال مشوب بالفخر والاعتزاز مع قناعة تامة بحتمية تحول اليمن بأسرها إلى مركز دماج كبير، ومن المؤكد أن تلك القناعة لم تكن لدى السلفيين وحدهم فقد شاطرهم تلك القناعة الكثيرون في اليمن، فالمشاهد اليومية لطلاب ضاقت بهم الطرقات من مختلف محافظات اليمن ومن بعض الدول الأخرى وهم يتقاطرون بلا انقطاع صوب دماج ومركز دار الحديث لدرجة طغى الحديث عن مركز دماج وشيخه وطلابه على كل حديث في تلك الفترة.
وحدها أيام وشهور الألفية الثالثة كان لها رأي آخر استناداً إلى حقائق تاريخية مكتوبة بالدم على كل صخرة بالجبال المحيطة بمركز دماج والتي كان خطأ الشيخ مقبل الوادعي الفادح عدم تنبهه لها وإدراك خطورتها.
فعلى الرغم من أنه من أبناء محافظة صعدة ويفترض أن يكون أكثر إلماماً ودراية ببيئة يتوارث أبناؤها ثأراً مذهبياً وسياسياً وتاريخياً مع غالبية الشعب اليمني غير المتعصب مذهبياً فكيف الحال مع حركة سلفية تمثل بدعوتها اجتراراً لصراع دموي يعود لعهد الخلفاء والصحابة رضوان الله عليهم.
لقد خانت الوادعي نباهته وسوء تقديره باستجلابه آلاف الطلاب من مختلف الأصقاع إلى غابة مليئة بسباع كامنة يتطاير من عيونها شرر قرون من الأحقاد وتعوي في نفوسها رغبة انتقام متوحشة تتحين أوان اللحظة المنتظرة.
يقول "خالد الخباني" وهو واحد من الذين كانوا يقومون بالتدريس وخدمة الطلاب في مركز دماج لـ"الموقع بوست": "لقد كنا جميعاً في المركز نعيش محصورين في حقبة الرسول صلى الله عليه وسلم (كإشارة لصرامة المحاذير العازلة التي فرضها الوادعي على طلاب مركزه وجعلتهم يعيشون عزلة جغرافية وتاريخية) وتجاهلنا حقائق تاريخية لـ(1350)عاماً كان يجب أخذها في الحسبان خاصة في محافظة صعدة معقل الفكر الرافضي الإثنى عشري الذي يحمل أتباعه كراهية موغلة لبعض الصحابة".
ما فتئ مشايخ الحركة السلفية في اليمن يؤكدون زهدهم عن المال أو الارتهان لأي داعم سواء داخلي أو خارجي حفاظاً على نقاء الدعوة من عوامل التأثير والإملاءات، مؤكدين أن ما يحصلون عليه من مال بالكاد يكفي لكفالة طالب العلم وأمور الدعوة وفي الحدود الدنيا.
زهد الدعوة السلفية ونظافة يدها تناقضه الأصول العقارية والمالية والمشاريع الاستثمارية والنشاط الخيري الذي تديره الحركة السلفية، كل ذلك مكن الحركة السلفية من احتلال الصدارة من بين كل الحركات والتكتلات والأحزاب اليمنية الأخرى من حيث الإمكانيات المالية.
سأل "الموقع بوست" خالد الخباني عن صحة الأنباء التي تحدثت عن الدعم المالي الضخم الذي كان يتلقاه الشيخ مقبل الوادعي لمركز "دار الحديث" بحيث وصلت الميزانية الشهرية للمركز قرابة ثلاثة ملايين ريال سعودي عند تسريب تلك الأخبار أثناء حصار الحوثيين لمركز دماج عام 2013؟ ومن هي الجهات الممولة للمركز؟
نفي خالد علمه بتلك الأخبار وحجم الدعم وقال: "إن الأمور المالية ومصادر الدعم كانت تخضع لسرية تامة ولا يطلع عليها سوى الدائرة الضيقة المحيطة بالشيخ مقبل، لكنه أكد أن المركز تلقى دعماً من جهات سعودية ومشايخ السنة في السعودية عن طريق الشيخ مقبل"، مضيفاً: "لا شك أن أي مركز يحتضن آلاف الطلاب يحتاج إلى دعم مالي كبير".
الدعم المالي الكبير الذي ذكره خالد نسبة كبيرة منه كانت تأتي من السعودية عن طريق ربيع المدخلي والذي يعتبر المتبني والداعم الأكبر للسلفية في الوطن العربي والعالم ومن خلفه الحكومة السعودية وسلفيون أثرياء دون شك.
وفاة الشيخ مقبل ووصيته لأتباعه
في 21 يوليو/تموز2001، توفي مقبل الوادعي مجدد الدعوة السلفية في اليمن كما يحب أتباعه أن يسموه في أحد مستشفيات مدينة جدة بالسعودية عن عمر يناهز الـ68 عاماً، مخلفاً لأتباعه وطلاب مركزه الذين غدو بالآلاف موزعين بين مركز "دار الحديث" الذي ضاق بأجسادهم وآخرين توزعوا على مختلف المحافظات بعد أن تخرجوا وبدؤوا في تأسيس مراكز للدعوة السلفية في محافظاتهم وقراهم، مخلفاً لهم وصية وضع فيها خلاصة خبراته وتطلعاته لمستقبل الحركة السلفية وحدد فيها أيضاً خليفته على كرسي الدعوة والهيكل القيادي والإداري لمركز "دار الحديث" ومرجعيات الحل والعقد عند نشوب أي خلاف، ونورد هنا مقتطفاً من تلك الوصية متبوعة بملاحظات حول ما تضمنته.
"أني أوصي الأقرباء حفظهم الله ووفقهم لكل خير بأخينا الشيخ أحمد الوصابي خيرًا وألا يصدقوا فيه، وأوصيهم بالشيخ الفاضل يحيى بن علي الحجوري خيرًا وألا يرضوا بنزوله عن الكرسي فهو ناصح أمين، وكذا بسائر الطلاب الحراس الأفاضل، وبقية الطلاب الغرباء؛ فهم صابرون على أمور شديدة يفهمها الله من أجل طلب الفهم فأحسنوا إليهم فإن الله سبحانه وتعالى يقول: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، والغريب يتألم من أي حادثة لا سيما وبعضهم أتى من بلده متنعمًا فارفقوا بهم حفظكم الله. وإياكم حتى تختلفوا دعوا الأمر في مسألة الطرد لأحمد الوصابي والشيخ يحيى والحراس. وأوصي قبيلتي وادعة أعزهم الله بطاعته حتى يحافظوا على دار الحديث فإنه يعتبر عزًا لهم، وقد قاموا بنصرة الدعوة في بدء أمرها فجزاهم الله خيرًا.
وأوصي إخواني في الله أهل السنة بالإقبال على الفهم النافع والصدق مع الله والإخلاص، وإذا نزلت بهم نازلة اجتمع لها أولو الحل والعقد: كالشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ أبي الحسن المأربي، والشيخ محمد الإمام، والشيخ عبد العزيز البرعي، والشيخ عبد الله بن عثمان، والشيخ يحيى الحجوري، والشيخ عبد الرحمن العدني، وأنصحهم حتى يستشيروا في قضاياهم الشيخ الفاضل الواعظ الحكيم الشيخ محمد الصوملي فإني كنت أستشيره ويشير علي بالرشد".
تبين الوصية جملة الضوابط الصارمة التي وضعها الوادعي لأتباعه محدداً مهام كل شيخ من أتباعه ومنصبا الشيخ يحيى الحجوري (ينحدر من محافظة حجة شمال غربي اليمن) خليفة على الكرسي من بعده مثنياً على أمانته ومشدداً على طاعته.
ذكرت الوصية الحراس وهم جماعة من طلاب المركز يتم اختيارهم وفق شروط صارمة بيد أن لفظة الحراس بقيت مبهمة المقصد وإن كشفت الهيكل القيادي المؤسسي للحركة.
فيما يتعلق بقبيلته "وادعة" وحثه لها بطاعة خليفته يحيى الحجوري والحفاظ على مركز "دار الحديث" أثبتت الأحداث التي سنوردها تالياً رهان الوادعي الخاطئ وسوء تقديره برهانه على قبيلته وربما قبائل محافظة صعدة عموما، فقبيلته كانت أول من خذل طلابه وفرط بمشروعه الذي نذر حياته وجهده ليراه حقيقة واقعة.
ويرجع السبب وفقاً للباحث اليمني المتخصص في الجماعات الإسلامية "صدام الحريبي" إلى أداء الشيخ مقبل ومركزه خلال عقدين من الدعوة التي وصل أثرها الى مناطق بعيدة من اليمن وخاضت صراعات فقهية في أمور ثانوية ولكنها فشلت في التأثير وكسب القبائل المحيطة بمركز "دار الحديث" المؤمنة بالمذهب الزيدي الهادوي وولاية ما يسمى آل البيت، والتنبه لمكامن الخطر الأكبر الذي يهدد بقاء دعوته ومركزه العلمي.
يشير الحريبي إلى أن الوصية لم تتضمن أي إشارات أو تعليمات من الشيخ مقبل لأتباعه تحدد طبيعة العلاقة وحدودها مع الشعب اليمني الذي ترك حركته في أوساطه وخصوصاً قبائل صعدة التي يحتك أفرادها بشكل شبه يومي مع طلاب مركزه وهذا يدل على إصرار الوادعي على بقاء حركته محاطة بالعزلة وكأنها تعيش في جزيرة نائية لا يوجد فيها سوى طلاب مركزه ومشايخهم، ولو كان يدرك ما يخبئه القدر لهم لكانت وصيته دعوة صريحة للجهاد.
حروب صعدة وثورة الشباب
بعد ثلاث سنوات فقط من وفاة الوادعي وقيام يحيى الحجوري مقامه في إدارة مركز "دار الحديث" بدماج وزعامة الحركة السلفية في اليمن وتحديداً في منتصف يونيو/حزيران 2004، انفجرت الحرب الأولى بين القوات الحكومية ومسلحين قبليين من أبناء محافظة صعدة بقيادة بدر الدين الحوثي والد حسين بدر الدين الحوثي مؤسس جماعة "الشباب المؤمن" المعروفة الآن بجماعة "أنصار الله الحوثيين"، وتبين لاحقاً وبعد أن خاب رهان على عبد الله صالح على الحركة السلفية في مواجهة حزب الإصلاح تبنيه ودعمه لجماعة الشباب المؤمن بزعامة حسين بدر الدين الحوثي الذي فاز في أول انتخابات برلمانية عام 1993 ممثلاً لحزب صالح (المؤتمر الشعبي العام) ولم يكن الدعم إيماناً من صالح بالشباب المؤمن بكل تأكيد وإنما رغبة عمياء في الحد من نفوذ حزب الإصلاح السياسي وشغله بصراعات عبثية.
عن ذلك الدعم قال عبد الله الرزامي أحد قيادات الحركة الحوثية البارزين ومن المؤسسين لجماعة الشباب المؤمن في عدة تصريحات صحفية إن الجماعة كانت تتلقى مبلغ عشرين مليون ريال شهرياً تصرف بأمر من صالح.
ما يهمنا في هذا التحقيق من تلك التي تلتها خمسة حروب (18يونيو/حزيران 2004--أغسطس/آب2009) بصورة متقطعة وفي أزمنة متفاوتة هو موقف الحركة السلفية منها وتأثيرها عليها.
فقد كشفت تلك الحروب سماكة السياج المذهبي والعقائدي العازل بين مجدد الدعوة السلفية الذي ملأ الدنيا صخباً وفشل في ترويض ذئاب الثأر التاريخي المتربصة في الشعاب والكهوف المحيطة بمعقل دعوته بمعتقداتها الدينية والمذهبية المتصادمة مع منهج الدعوة السلفية وطلابها، فحتى قبيلته وادعة تركت مشروعه الذي أفنى حياته في تشييده يتبدد في غمضة عين.
وعلى الرغم من وقوف طلاب مركز "دار الحديث" وشيخهم يحي الحجوري على الحياد من تلك الحرب التي سقط فيها آلاف الجنود ومن أبناء القبائل، إلا أن ذلك لم يشفع لهم لدى جماعة الحوثي التي قويت شوكتها وسيطرت على أغلب مديريات صعدة.
تجاهل السلفيون خطورة حمم البركان الثائر تحت أقدامهم ليذهبوا بعيداً عبر إصدار فتاوى وخطب تهاجم ثورة الشباب السلمية 11 فبراير/شباط 2011 وتحرم الخروج على ولي الأمر دون النظر إلى مشروعية مطالبها وسلمية نهجها، نالت الناشطة اليمنية وأحد رموز الثورة الشبابية توكل كرمان الحاصلة على جائزة نوبل للسلام على النصيب الأكبر من فتاوي السلفيين وخطبهم العدائية المحرضة.
المشهد الأخير
بينما كان بركان الثأر المذهبي يقذف حممه على مركز طلاب دار الحديث بمن فيه والصرخات تتعالى مطالبة برأس عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية المختبئون بين طلاب مركز "دار الحديث" كما يصور ذلك الطرح الفكري الانتقامي للحركة الحوثية الوليدة فعلاً المتجذرة وجودياً، أدرك مشايخ السلفية الحقيقة المرة المتمثلة في أن أي حركة اجتماعية أو سياسية تفرض حول نفسها طوقاً من العزلة عن هموم المجتمع وقضايا الناس الذين تعيش بينهم هي حركة ولدت ميتة بكل تأكيد.
لن ينسى السلفيون مشهد غرة يناير/كانون ثاني 2014 الحزين وهم يغادرون معقل حلمهم مكرهين ولا يعرفون إلى أين؟
عدوى أحزاب اليسار
مثل التهجير القسري لطلاب مركز دماج ومشايخه من قبل الحوثيين هزة عنيفة أتت على جدار الصلابة الذي كانت تدعيه الحركة السلفية في اليمن، ذلك الجدار الذي خلفت الخلافات بين مشايخ الحركة من ثورة الشباب السلمية تشققات فيه ظهرت للعيان لأول مرة.
من المؤكد أن نقداً ذاتيا وعتاباً مريراً حدث بين رموز السلفية وربما اتهامات طالت الشيخ يحيى الحجوري شخصياً وكل من خرج عن وصية الوادعي، ولأنها تباكياً على اللبن المسكوب بعد فوات الأوان فشلت في لملمة شمل السلفيين واتجهت كل جماعة لحال سبيلها، فالذين أدركوا أهمية السياسة شكلوا حزبي الرشاد والنهضة السلفيين، ومن فضل عمل الخير اتجه إلى الجمعيات الخيرية كجمعيتي الحكمة والإحسان، فيما توزع الباقون على المدن والقرى تاركين للمهتمين بدراسة الظاهرة السلفية البحث عن الأسباب التي أصابت الحركة السلفية بلعنة أحزاب اليسار في تناسل أكثر من فصيل وجماعة.
الحرب التي زادت الحركة السلفية تمزقاً
ألقت سيطرة جماعة الحوثية على العاصمة صنعاء وأغلب المحافظات واندلاع الحرب في 26 مارس/آذار 2015 بظلالها على الحركات السلفية الخارجة للتو من معطف الحركة الأم وتباينت مواقفها من أطراف الصراع مجدداً، فمنها من رأى بضرورة الالتحاق بمعسكر الشرعية ومقاتلة المليشيات الحوثية أو الروافض -كما سمتهم- والبعض فضل القتال بصورة مستقلة، ومنهم كما هو حال الشيخ محمد الإمام صاحب مركز معبر بمحافظة ذمار فضل البقاء على الحياد مستمراً في نشاطه الدعوي، متجاهلاً كل التغيرات غير متعظ بدروس وعبر ما حدث في دماج، ليجد نفسه في نهاية المطاف مجبراً على إغلاق مركزه وتأييد حركة الحوثيين ومذهبهم المناقض لمنهج الحركة السلفية.
لقد كان لقاء نجل الشيخ محمد الإمام برئيس المجلس السياسي لجماعة الحوثي مهدي المشاط في(14مايو/أيار 2019) ومضمون الرسالة التي نقلها من والده للمشاط والتي نوردها هنا بحسب ما أذاعته وكالة "سبأ" التابعة للحوثيين عشية اللقاء صادماً ليس للسلفيين وحدهم بل للشعب اليمني عموما.
"الشيخ محمد الإمام يبلغ السلام الكثير لمهدي المشاط ويشكره على مواقفه الأخيرة بالسماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية من إقامة صلاة التراويح وأيضا السماح لهم بإقامة المحاضرات والدروس الدينية، وكما ورد على لسان نجل الإمام أن الوالد الشيخ يشعر بالامتنان الكبير للحوثيين، وأضاف أن هذا يدل على تحليكم بالمسؤولية وتعاملكم السوي مع الناس بمختلف شرائحهم وتوجهاتهم الفكرية، واتضح لنا جميعا أن أنصار الله (الحوثيين) لا توجد لديهم لا عنصرية ولا طائفية ولا ما شابه ذلك، مؤكداً على أن هذه صفات العدالة".
بالعودة لوصية الشيخ مقبل الوادعي وحديثه عن محمد الإمام والمكانة المرموقة التي يشغلها في الهيكل القيادي للحركة السلفية ومقارنتها مع مضمون رسالة محمد الإمام الشفهية للمشاط، يتضح كيف لعبت رياح التحولات السياسية بغصون شجرة الحركة السلفية المتهاوية.
حزب الإصلاح مجدداً
بتدخل التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات في حرب اليمن اللتين تتقاسمان مع الحركات السلفية عداءً سياسياً وفكرياً لحزب الإصلاح ما دفع بهما لمنح الحركات السلفية دوراً عسكرياً وسياسيا أوسع أفقاً.
عن هذا الدور يقول الصحفي اليمني صالح البيضاني المقيم في دولة الإمارات: "فرضت الحرب والتدخل العسكري للسعودية تأثيراتها على الحركات السلفية الناشطة في اليمن، إذ شكل ذلك لحظة مفصلية في تاريخ الجماعات السلفية اليمنية، وحتى في سياق تطورها ومستقبلها، حيث فقدت معظم الجماعات السلفية عفويتها الاجتماعية السابقة، واكتسبت أطراً تنظيمية معقدة، أقرب لتنظيمات جهادية مغلقة، فقد رأت هذه الجماعات أن انخراط السعودية، الممثل الإقليمي للسنة ضد إيران الممثل الإقليمي للشيعة، وحليفة جماعة الحوثي، يمنح حربها ضد جماعة الحوثي مشروعية دينية للدفاع عن الأكثرية السنية، يعضد بذلك حربها على جماعة الحوثي التي هجرتها بالقوة من دماج في 2014، ومن ثم اكتسى قتالها الطابع الجهادي الطائفي، تماماً كجماعة الحوثي، وهو ما جعل قتالها أكثر مبدئية، ولا يتأثر بالتقاربات السياسية بين الفرقاء اليمنيين ووكلائهم الإقليميين".
بالمقابل، أداء الجماعات السلفية المقاتلة دفع الدول المتدخلة لمحاولة استقطابها سياسياً، إذ رأت السعودية في هذه الجماعات مرشحاً بديلاً عن حليفها التقليدي، حزب الإصلاح، وأكثر انضباطاً من الأحزاب السياسية اليمنية المنضوية تحت تحالف الدفاع عن السلطة الشرعية، وذلك لتواضع مطالبها وتطلعاتها السياسية في مقابل شدة تفانيها وولائها المنطلق من اعتبارات دينية، كما أن الإمارات دخلت الحرب في اليمن دون حليف محلي.
بيادق على رقعة شطرنج الصراع
لم تتعرض الحركة السلفية لمؤامرات استهداف كغيرها من الكيانات والحركات اليمنية باستثناء عملية التهجير من دماج بمحافظة صعدة، ما حدث للحركة السلفية من عمليات تشظي وانقسامات وجماعات متصارعة يرجع بالمقام الأول وفق أغلب المراقبين لعوامل داخلية وتنظيمية داخلية وعقيدة راديكالية ماضوية صارمة عصبت أعين القائمين على الحركة فساروا بأتباعهم في دروب المخاطر دون بصيرة.
وجد السلفيون أنفسهم بعد أربعة عقود شيعاً وجماعات جعلت منهم ظروف الحرب في اليمن بيادقاً بأيدي أقطاب الصراع الداخليين والخارجيين، تمزقوا بيادق بين الشرعية والسعودية والإمارات، والحوثي أيضا له نصيب من كعكة السلفية وكل بيادق تحارب ضد بيادق.
اغتال سلفيو الجنوب الموالين للإمارات بقيادة هاني بن بريك عددا من مشايخ العلم والدعاة السلفيين الموالين للشرعية بينهم السلفي عبد الرحمن العدني (28 فبراير/شباط 2016) رئيس مركز الفيوش السلفي بمحافظة عدن الموالي للشرعية، وذهب أبو الصدوق المنشق عن الشيخ السلفي الموالي للإمارات في تعز عادل عبده فارع ضحية لقرار ولائه لشرعية الرئيس هادي أيضا.
بالمقابل ألقت السعودية بكل وسائل الدعم والثقة في حربها في اليمن بأيدي السلفيين ومنحتهم قوة ومساحة للتحرك.
فيما نسي السلفيون الخاضعون لسيطرة المليشيات الحوثية صراعهم العقائدي الممتد منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم ليتفرغوا للحديث عن تسامح الحركة الحوثية المنزه من العنصرية والطائفية وقرارها التاريخي العادل بالسماح لهم بأداء شعائرهم الدينية وصلاة التراويح.
إن كان ثمة طرف ما جديرا بالشفقة والتضامن في اليمن فهم السلفيون لا سواهم.