[ الكاتب محمد دبوان المياحي ]
أما حين يولد كاتب، فيجب أن تُعلن حالة الطوارئ في المدينة، إنه أشبه بحريق يلتهم كل شيء، بحسب تعبير إمرسون، وهي كناية عن دوره في تفجير تصوراتنا وإعادة بناء كل شيء بشكل مختلف.
الكاتب محمد دبوان المياحي عندما يكتب تخلف كلماته غبار ودخان، أفكاره تُثير جدل في الوسط الثقافي، له أسلوبه الخاص في السرد يتناول القضايا من زوايا متفردة تعكس فلسفته الذاتية وتصوراته للوجود. يمنح الأفكار العابرة بعدا خالدا.
استطاع أن يعيد الاعتبار للمقالة الطويلة برأي كثير من النقاد رغم قصر نفس القراء واشتعال وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما هو آني وخفيف، ولأنه كذلك كان دافعنا في هذا الحوار التطرق إلى عدد من المحاور التي تتعلق بالفضاء الثقافي في اليمن والدخول قدر الامكان إلى عالم هذا الكاتب الشاب.
نص الحوار:
*كيف أصبح محمد دبوان المياحي كاتب مثير للجدل؟
**هذا سؤال يجيب عليه القارئ الذي يعتقد أنني مثير للجدل. أنا لا أتعمد اثارة الجدل كما أني لا أتجنبه. أقول ما أقول حول أي قضية أو أي فكرة عابر سواء كانت مقالة رسمية منشورة في المواقع أو في صفحتي على فيسبوك. قد يبدو هذا للآخرين أنني مثيرا للجدل; لكن أنا شخصيا لا أنطلق من تلك الدوافع.
إن كان هناك ما يجب قوله في هذه النقطة_ وهذا إفصاح ذاتي_ أجد في داخلي تلك النزعة الطبيعية التلقائية إلى صياغة المواضيع من زاوية جديدة. وبلغة الفلسفة وهذا أحد تعاريفها بالمناسبة أنها عملية استشكال، تحويل كل شيء إلى مشكلة بمعنى يجعله مستفزا للذهن . أجد لدي تلك النزعتين: نزعة أن أصيغ أبسط القضايا الطبيعية التي لا يمكن أن تثير جدل، بطريقة تجعلها قادرة على تحريك الذهن. وأشعر أن لدي مداخل كثيرة لجعلها بنظر الآخرين مثيرة للجدل، على أن ذلك يحدث بطريقة عفوية وسلسة كنزعة متماهية في أعماقي، وبنفس الوقت أجد لدي القدرة أن أدخل إلى أي فكرة جدلية وأنهي التناقض فيها. باختصار أجد في كل ما هو محسوم ومسلم به، إمكانية لتفكيك هذا الثبات، وفي كل ما هو متناقض إمكانية لتسويته والجمع بين طرفي التناقض.
أقول هذا، من واقع اشتغالي على قضايا كثيرة والقراءة عنها من مصادر متعددة، مع التنويه انني اتجنب الحديث باللغة الذاتية، وضمير المتكلم، ولكن لدي هذه النزعة للتفلسف الدائمة وهي متجذرة في داخلي، أحبها وأراها تعبيرا عن قدرة الكاتب على اعادة تعريف الاشياء كلها انطلاقا من وعيه الخاص بها .
*كيف ترى مستقبل الشباب الثقافي في اليمن؟
**بالنسبة لمستقبل الشباب الثقافي مرهون بمستقبل البلاد بشكل عام، مع أنني أميل إلى القول أن كل حالة ثقافية أصيلة يمكنها أن تشق طريقها في ظل واقع سياسي مستقر أو في ظل واقع سياسي مضطرب، بل أنني أميل إلى مقولة يقولها "مارشال هدجسون" وهو فيلسوف أمريكي قال:"إن فترات الانحطاط السياسي تكون فترات الازدهار الثقافي"، وأنا أرى أن هذه الفترة الممتدة منذ 2011 إلى اليوم هي فترة حراك ثقافي كبير بغض النظر عن كل التغيرات السياسية. أكيد أن الواقع الثقافي يتأثر بمستوى أو بآخر بواقع البلد، لكن كما قلت لك كل من يمثل حالة أصيلة في عالم الثقافة سيستمر، صحيح سيرتبك ويتعثر ربما، ويواجه محبطات كثيرة لكن الثقافة هي ذلك الدافع القدسي بداخل الانسان، يستمر ويشق طريقه يتجلى عبر كل الظروف والمراحل. الحالة الثقافية هي حالة اختراق للظروف. لا ينمو المثقف وسط بحبوحة. صحيح الوضع العام المرتب يساعد على نمو حالات كثيرة، ولكن ايضا تظل الحالات الثقافية المتينة طفرات تحدث في حياة الشعوب وتثبت ذاتها دائما ولا تنكسر. تتأثر ولكنها لا تنكسر.
أما حين يولد كاتب، فيجب أن تُعلن حالة الطوارئ في المدينة، إنه أشبه بحريق يلتهم كل شيء، بحسب تعبير إمرسون. يملك وقوده الداخلي وعنفوانه المتصاعد، قدرة على الحتفاظ بذخيرة عالية، كناية عن دوره في تفجير تصوراتنا وإعادة بناء كل شيء بشكل مختلف.
*انت تكتب مقالات طويلة دائما لكنك استطعت برأي النقاد أن تعيد للمقالة الطويلة اعتبارها هل لذلك علاقة بفلسفتك الذاتية أم أن المقالة الطويلة شيء خارج عن إرادتك؟
**مسألة المقالات المطولة معك حق. ارى ان المقالات الطويلة ليست هي المشكلة، ولكن مزاج القراء قصير. طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي أفقدت الناس القدرة على الصبر، يلهثون هنا وهناك بحثا عن شيء جديد. حالة التدفق الدائم للأفكار والمعلومات تجعل الناس يشعرون بالضيق واحساسهم بالزمن هو الذي يطول ربما ليست المقالة التي تطول ولكن انفعالاتهم قصيرة، اختلال احساسهم بالزمن هو من يوهمهم بطول المقالة.
اذا كانوا غير قادرين على قراءة المقالة التي لا تتعدى الخمس دقائق او العشر فكيف سيقرأ هؤلاء كتاب؟!. أنا لا أتعمد الأمر، ربما لدي ميل أحيانا إلى الاسهاب قليلا والشرح، شرح الفكرة بطريقة حتى وان كانت قد وصلت الفكرة، ولكن لدي قناعة ان هناك من يكتفي بالفكرة بشكل خاطف وهناك من يتحاج أن تؤثث له الفكرة بسعة أكبر.
*هناك من يقول الفكرة مكتملة ما الداعي لشرحها؟
** لا. أنا باعتقادي أن الناس يحتاجون إلى توسعة الفكرة وتأثيثها، فمثلا عندما نقرأ ملخص كتاب، لأهم الأفكار فيه ، فهذا لا يكفي ولا يعني أنك سيطرت على مواضيع الكتاب بشكل جيد، يجب أن تؤثث الفكرة وتأثيثها هو قراءتها كاملة، حتى التنويع على نفس الفكرة، تقدمها بتنويع أسلوبي هذا جيد ليعمل على تجذير الفكرة لدى القارئ. لا أراها طويلة وأنا متمسك بهذه الطريقة. أرى أنني تمكنت من أجعل القارئ يصبر ويقرأ. مقالات طويلة، ولكن هناك تفاعل لا بأس به جيد، مع انه ليس معيارا بالنسبة لي، المهم أن كتابة فكرة طويلة ومزاج الجمهور قصير، وعليك أن تدفعهم إلى أنهم يقرؤونها بكل حالاتهم وحالاتها، وهذا أمر جيد.
*هناك من الكتاب يصفون كتاباتك بأنها تنتمي لما يسمى التفاهة أو الشعبوية.. كيف ترد؟
**ما من إنسان إلا ويكون تافهًا في أوقات معينة، حتى أعظم عباقرة الكوكب، يقولون أشياء مجنونة وغريبة وربما ساذجة، هذا طبيعي. وكما يقال: سقراط نفسه لم يكن سقراط24 ساعة، أحيانا يكون سقراط الذي نعرفه وأحيانًا شخص عادي.. الكاتب يُقيِّم من لحظات ذروته، حالة التجلي العليا وليس من مزاجياته الخفيفة والعابرة. هذا أولا وبشكل عام.
ثانيًا: الحكم أن ما أكتب جيد أو عادي، هذه مسالة ذوقية. ذوق قد لا تكون قائمة على خلفية نظرية وبعد نقدي هي مسألة تتعلق بالمزاج والموقف من الشخص، بإمكاني أن أقول على أي كاتب أنه كاتباً تافها، هل هو يكون تافها بمجرد انني اقول تافه او جيد لمجرد انني اقول عنه جيد؟! في الحالتين أنا لا أقدم حكما، هذا ليس حكما نقديا هذا انطباع عابر تتحكم فيه أمزجة الشخص الذي يقوله. أنا بإمكاني أن أمسك أعظم الكُتاب في الكوكب وأقول هذا كاتبا تافها، أنا الآن هل قررت شيئا؟! لم أقرر الحقيقة تجاه ما أصفه بالتفاهة أو عدم التفاهة، ثم إنني لا أحب أن أقف موقف المدافع عما أكتب، أنا أكتب فقط. ومثلما أن من حق أي إنسان يقول عني هذا عظيم من حق الآخر أن يقول هذا تافها. لا مشكلة لدي، وهذا الأمر لا يشغل بالي ولا يأخذ جزء من تفكيري.
*يتساءل البعض كيف يكتب المياحي ما يتعارض مع جماعة الحوثيين في صنعاء دون أن يتعرض لأي أذى؟
**هذا سؤال يواجهني دائما وأنا أفضل ألا أجيب عليه. هناك انقلاب في المعيارية لدى الناس. كأن مجرد أن ينجو المرء أصبحت تهمة. كأن الخطأ ليس أنك تعتقل بل الخطأ أنك لا تُعتقل. هناك انقلاب قيمي وخراب في المعايير الأخلاقية لدى الناس. لا يدري أحد كيف أعيش في صنعاء وأنا لا أحب أن أفصح ولا أحب تسويق نفسي كبطل. لكن هذا السؤال أنا أفضل عدم الاجابة عليه، بعد أن ينجلي هذا الوضع سأقول كيف عشت هذه الفترة في صنعاء.
هناك أشياء كثيرة للأمانة يمكنني قولها حول بقائي في صنعاء وما أواجهه ولكنني لا أحب هذه النغمة وأشعر بنفور منها. أرى أن على المثقف أن يقول رأيه في أي مكان او أي زمان وبأي طريقة وبأي لغة. فقط يقول ويمضي. فالمثقف كما يقول أدوارد سعيد:" يستطيع أن يهمس بالحقيقة تحت أي ظرف وبألف طريقة وطريقة"، ليس مهما ما يقوله الآخرين. المهم ألا أعيش بضمير مداهن أو مستكين وأن نتمكن من تعزيز حالة المقاومة النفسية لدى الناس ومنعهم من التماهي مع وضع مختل.
*برأيك ما الذي يفترض أن يقوم به الكُتاب والمثقفين الشباب من جيلك الآن ولم يقوموا به؟
**أنا أرى أنهم يبدأوا بتنظيم عملية انتاجهم المعرفي. هذا افضل مواقع التواصل تغري الناس بالإنتاج اللحظي. هي مهمة ومؤثرة إلى حد ما، لكن الأمر يحتاج إلى تنظيم معرفي ينتقل من حالة الكتابات المتناثرة إلى إنتاج ذو وحدة متكاملة لا يمثل شخصيتهم في الفضاء الثقافي.
*ما الذي يمتاز به المياحي عن غيره من الكتاب في اليمن؟
**مرة أخرى الأسئلة التي تطرحها ذات طابع ذاتي، وأنا لدي النزعة للنفور من الحديث عن ذاتي، لا أدري، أشعر بالضيق إن كان هناك حديثا عني. أرى أن أفضل تجلي للذات هو في الحديث عن الموضوع. حتى عندما تتحدث عن ذاتك يجب أن تمنح القضية بعداً مفصولاً عنك، وأنت تتحدث عن موضوع ستتجلى ذاتك فيها وأنت تتحدث عن ذاتك دع موضوعا ما يتجلى وهكذا حتى وانت تتحدث عن مشاكلك الذاتية عليك أن تمنحها بعداً كونياً خالداً بعداً عمومياً, وهكذا هو ديدن كل كاتب أو ما يفترض أن يجتهد ليكون عليه.
*ما الذي تمتاز به؟
**ربما الفكرة التي أحرص عليها دوما هو أن المثقف دوره هو الوسيط بين عوالم الأفكار الكبرى وبين الشارع، قضايا اللحظة، هذا ما أسعى إليه أنا لا أتحدث عن مزاياي الآن، ولكن هذا ما أنتهجه، أسعى دائما للحديث عن القضايا اللحظية من منظور ذات بعد خالد، مثلا أمنح القضية العابرة فكرة جذرية، أربطها بما هو مفترض وما يجب، أعمل على تبسيط المعنى الكبير والأساسي وربطه بما يحدث. أرى أن المثقف قدرته على أن ينقل الأخبار الكبيرة وبلغة سلسة، يسحبها إلى الشارع، تلك الافكار العليا يأخذها من الرفوف إلى الوسط الواقعي اللحظي، أرى أن هذا ما يجب على المثقف أن يقوم به وهي مهمة تنويرية جيدة. أننا نمنح الناس أفكار معيارية يستطيعون من خلالها أن يفهموا واقعهم بل ويكونوا خلفية يقيسوا بها كل حدث قادم.
*من الملاحظ أن الواقع الثقافي في اليمن هناك طغيان للتفاهة والميل ناحية تسطيح القضايا ما رأيك؟
**أرى أن هذا الأمر ليس صحيحاً. التفاهة ربما هي سمة عالمية لهذا العصر بشكل عام مواقع التواصل الاجتماعي تحوي كل شيء. هناك التفاهات وهناك الأشياء الجيدة وهناك الأشياء التي ما بينهما، ليس هذا حالة فريدة بالنسبة لليمن فقط، وليس هناك تسطيح للقضايا. عند أي قضية بقدر ما ستجد تناولات سطحية ذاتية ستجد أيضا تناولات ذات مضمون جيد فيها من الدقة والحصافة الكثير. لا مشكلة في هذا. لأن مواقع التواصل الاجتماعي ليست هي معيارا. ثانيا التواصل الاجتماعي هي مواقع ذاتية.. الناس يكتبون فيها بوح ذاتي وفيها تناول للقضايا الخاصة في مستويات متعددة من الكتابة لا يصح اننا نطلق عليها صفة التفاهة. في الأخير، هذا فضاء تفاعلي شخصي وعام فيه اختلاط في كل الانماط الكتابية والبشر مستوياتهم الثقافية متعددة. هي صورة للمجتمع، وبالتالي أنا لا أميل لوصف المجتمع بالتفاهة، الناس في طبيعتهم العمومية سطحيون يحبون الأشياء الخفيفة وبالتالي هذا شيء لا يمكنك اتخاذه معيار لتقيم المستوى الثقافي اليمني.
*كيف يجب أن يكون المثقف من وجهه نظرك؟
**ليس هناك صفة واحدة لجميع المثقفين يتحلون بها. كل مثقف هو عالم لوحده. وإذا لم يكن عالم لوحده فهو ليس مثقف. من يحاول صهر المثقفين داخل قوالب معين شخص يخضع لتقسيمات مدرسية. باعتقادي مصطلح المثقف هو مصطلح اشكالي. مفهوم اشكالي لا يمكن حسمه. احيانا يأخذ أبعاد ذات طابع إيديولوجي. كل واحد يعرّف المثقف من جهاته. لا يمكن لأحد أن يمنح صفة المثقف أو أن ينتزعها. المعرفة هي المجال الوحيد الذي ينتهي فيه حالة الفرز. ما هو مهم بالنسبة لي كمحددات عامة يكون لديه التزامات قيمية معينة، لديه صرامة في الموقف سوى تجاه قضايا الشعوب أو قضايا المعرفة او غيرها، يكون لديه تصور شامل. لا يمكن أن يكون مثقف ما لم يكن لديه رؤية شاملة تجاه قضايا كثيرة، القضايا المعرفية الكبرى القضايا الوجودية وقضايا الواقع يكون لديه رأي متفرد ونوعي أو لنقل لديه بصمته الخاصة دوما، وتلك فكرة تقليدية معروفة، هذا هو المهم بالنسبة لي.
*يظهر من كتاباتك حبك الشديد لمؤلفات نيتشه وسوران لماذا هؤلاء بالذات؟
**للأمانة ليسوا هؤلاء أكثر الكتاب الذين أثروا فيني. ليس هذا. لو سألتني ربما سأقول لك ليس هناك كاتبا واحدا وإنما حالات متعددة جدا بمعنى من كان مؤثرا فيني في عام 2012 ربما في عام 2013 لم يعد مؤثرا، وهكذا عملية التأثير والتأثر تختلف وتتطور مع توسع الدائرة المعرفية للمرء. انا اقرأ تقريبا لأكثر الفلاسفة العرب أو الغربيين ولكن لا أحب الاستعراض بالأسماء إلا إذا أتى بنفسه، أرى أن على المثقف هو أن يعمل عملية عصر للمعرفة بالكل وتتجلى فيه. انا قد أجلس مع إنسان لا يذكر لي أي مؤلف ولكن اكتشف فيه ذكاء عال وإن عنده وضوح في الرؤيا تجاه أهم قضايا الوجود بشكل يدهشني، وأجلس مع شخص يذكر لي عشرات المثقفين وألاحظ تناقضات وتوترات كثيرة في وعيه. ليس ورود نيتشه أو سيوران يعني أني أحب هؤلاء كثيرا، بل إني قد أذكر لك فلاسفة أو مثقفين تأثرت بهم كثيرا صنعوا لدي انقلاب في الرؤية أكثر من نيتشه. صحيح نيتشه، مفكر جذري من الفلاسفة الذين أسسوا نهجا جديدا، له أسلوبه المتفجر والذاتي وبشكل منجاز للغة التجريدية الجافة للفلاسفة، أسلوبه حي، وهو شخص حاد كفيلسوف وكما يقال هو فيلسوف "الانقلاب على القيم" بمعنى حاول أن يأتي بتصور جديد للوجود، أعتقد ما من مثقف ألا وتأثر به بمستوى أو بآخر. وطبيعي أن يرد لكن وروده لا يعني أنه المفكر الوحيد الذي مؤثر فيني بشكل أكبر.
*يقول البعض إن المياحي هو الكاتب الأول في اليمن هل تعتبر نفسك كذلك؟ وكيف ترد على هكذا تصنيف؟
**هذه تصنيفات بدائية نوعا ما، انتهى زمنها، كما كان يقال، الكاتب الأول والشاعر الأول. هذا تصنيف توارثناه منذ سوق عكاظ، هذا أشعر العرب، وهذا أكثرهم هجاءا، وهذا أكثرهم مدحا... هذه تصنيفات مكانيكية وغير فنية وغير أدبية لا تحمل بعدا نقديا. بإمكان كاتب عظيم أن يكتب اليوم مقالة عظيمة وفي الغد يكتب مقالة عادية وبإمكان كاتب متوسط أن يكتب اليوم كتابة عظيمة وغدا يكتب أقل منها وهكذا; الأمور ليست خاضعة لهذه المعيار الحاد من التصنيفات، الإنسان والانتاج الأدبي حالة من الصيرورة حالة متذبذبة من الصعود والهبوط هذا هو طبيعة العملية الابداعية، وبالتالي هذه التصنيفات ليست صحيحة دائما وهي تعبر عن إنطباعات، قد تقترب من الحقيقية بهذا القدر الذي يحتمل أن تبتعد عنه.
*لمن تقرأ من الأدباء والكتاب اليمنيين؟
**للأمانة لو قلت لي من هو أكثر أديب يمني تقرأ له لقلت لك أني أكثر الادباء اليمنين لم أقرأ لهم كثيرا، قرأت للبردوني والمقالح حتى البردوني لم اتشربه جيدا ولا المقالح، إلى الآن ما زالوا أهداف في ذهني. هناك أدباء عرب آخرين قرأت لهم بشكل أكثر وشعرت أني سيطرت على انتاجهم أكثر من الأدباء اليمنيين. وهذا شيء يبعث الحرج في نفسي; الأصل أن أكون قد أحطت بكل الانتاج الأدبي اليمني أو أقلها للأدباء اليمنيين المؤثرين أو الأدباء بالمعنى التاريخي .
*اعتقادك ما هي أبرز التحديات التي تواجه المثقفين اليمنيين الشباب؟
**هي عملية المنهجة: كيف يتخلصون من حالة الشتات، التناثر المعرفي. أرى شباب كثيرين واتواصل مع أغلب الشباب على الساحة اليمنية يقرأون كثيرا ولكن عملية مشتتة لم تنتظم بعد. أنا أظن أن الشخص الذي يدخل عالم المعرفة يصادف ارتباك لا مشكلة. في البداية هناك عملية ارتباك قليل ولكن النشاط المعرفي المتواصل يعيد تصحيح نفسه شريطة الجهد المستمر واليقظة الدائمة، ينشأ لكل مثقف نظام داخلي يستطيع به تحديد ما هو مهم وما هو غير مهم، تتشكل في ذهنه خارطة أو شبكة يكون لديه نوع من الاتساق نوع من المنهجية.
أما كيف يختار، فأظن، هناك كتب إذا قرأتها ستستفيد وإذ لم تقرأها لن تخسر كثيرا، لكن هناك كتب إذا لم تقرأها ستخسر فكرة مركزية. من جانب أخر، وكفكرة مفصولة عما سبق لكنها متصلة بالمنهجية أو مؤشر لها:
على المثقف أن يدرك الخيط الناظم لتصوره ومتى يشعر أنه بدأ ينتقل إلى حالة من المنهجية في معرفته. في اللحظة التي يشعر فيها الشاب أنه بدأت الصورة توضح له، بدأ يستطيع أن يربط القضايا كلها على شكل متسلسل، تنتهي عندها كل التناقضات. هناك قراء كثر يقرأون في كل الاتجاهات ولكن الثمرة ضعيفة. دعني أرى ما تقرأه في تقدم عملية الوعي لديك. يقول لي ويسرد أنه يقرأ عدد من الكتب. هذا جيد.. لكن لا تلحظ ذلك في حديثك معه ولا في تناوله للقضايا. بتعبير نيتشه على المثقف أن يتجاوز نفسه باستمرار. تحولت القراءة إلى عملية موضة. على المرء أن يتساءل لماذا أنا أقرأ لماذا هو مهم أن أقرأ هذا الكتاب ما الذي سيضيفه لي. أرى أنه حين ينتقل المثقف الشاب إلى هذا المستوى من المنهجية. ستكون عملية القراءة عندها جيدة ومثمرة.
* أهم كتاب أثر فيك؟
**لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال وأرى لو أني أجبت سأكون كاذبا وزائفا، فمثلا إذا سألتني في 2012 ما هو أكبر كتاب أثر فيك؟ سأقول لك كازنتزاكيس. زوربا قرأتها أكثر من مرة حتى سالت كل فكرة قالها في نسيجي. لقد أثر فيني كثيرا قرأت له "تقرير إلى غريكو"، "زوربا" ،"تصوف" بشكل دقيق صنع بصمة نوعا ما في شخصيتي.
لكن هذا فيما لو كنت سألتني في 2012، بعدها تعددت دائرة الثأثيرات، ربما لو سألتني ما هو الكتاب الذي أثر فيك هذا الشهر سأجيبك، وفي الشهر الآخر سأجيبك هي عملية تعددية مركبة. لدي مصادر متعددة للمعنى، وأقرأ بمسارات متعددة، وأجد متعة في المزج بينهما جميعا: في السياسة في الرواية في الشعر في الفلسفة في علم النفس بالتحديد، وكل مسار هناك كتب كثيرة أثرت بي وهكذا. هذا هو ما يتوجب أن ينتهجه الكاتب يعصر كل شيء ويخرج برحيقه الخاص، أو على الأقل هذا ما أسير عليه.