[ مقبل نصر غالب - صورة خاصة بالموقع بوست ]
كان مدير مشروع تدريب المعلمين والقيادات التربوية أثناء الخدمة، والمعين من اليونيسيف، الأستاذ حسين بيومي السائح، من الخبرات السودانية العريقة، فقد عمل عميدا لمعهد بخت الرضى السوداني، مدة طويلة، تأهل وتدرب على يديه آلاف التربويين والمعلمين السودانيين.
وعمل مع منظمة اليونيسيف، في مشروعات عديدة، لذلك لم نختلف معه في شيء، كنا أسرة واحدة، هو يتابع التزامات اليونيسيف، وأنا بصفتي مديرا مشاركا للمشروع، أتابع التزامات الوزارة، ونلتقي في إدارة المشروع، نناقش كل شيء بشفافية.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يتذكر: كنتُ وكانت تعز .. ذكريات عن الدور المصري والزخم الثوري والمركز الإسلامي
وعندي في إدارة المشروع مجموعة من التربويين المتخصصين، المدربين على تدريب غيرهم، وتأليف المواد التعليمية، "كل مادة تشكل وحدة تعليمية متكاملة لا تقل عن أربعين صفحة".
وقد خطونا في هذا العام 1982، خطوة جديدة، فتحنا ثلاثة مراكز تدريبية في محافظات إب وذمار وحجة، وبدأنا بتدريب الموجهين فيها.
وبدأت المراكز السابقة "صنعاء، تعز، الحديدة"، بتدريب مديري المدارس، وزودنا المراكز بالمواد التعليمية المطبوعة، وأنا شخصيا قمت بتأليف مادتين، و"السائح"، ألف مادتين أيضا، والبقية على المختصين في المشروع، وكل مادة نناقشها جميعا لإقرارها قبل إحالتها إلى الطبع، أو تكليف الكاتب باستكمال مادته وفق الملاحظات.
مشوار المعاملات والبيانات
تم تدريب المختصين، حتى على تشغيل الأجهزة التعليمية وبرمجة موادها لتسهيل التدريب، و"السائح" لم تكن لديه مشكلة في توفير التزامات المنظمة، وأنا أمامي المعاملات المالية تأخذ وقتا عبر الشؤون المالية في الوزارة، والجهاز المركزي للتخطيط، ثم وزارة المالية، والعودة إلى الوزارة، ومعاملات جديدة.
وعندنا ازدواجية ثلاثية بين تبعية الموجهين في مركز التدريب لمكتب المحافظة، وجهاز التوجيه، ومشروع التدريب، رغم أننا عملنا لجنة لتسير المشروع، وقرارها ملزم، وهي مشكلة من رئيس جهاز التوجيه والتفتيش، وعضوية مدير عام إعداد وتدريب المعلمين، ومدير عام الشؤون المالية، إضافة إلى مدير المشروع والمدير المشارك.
اقرأ أيضا: مقبل نصر يتحدث عن: إنشاء منتزه تعز وأول انتخابات نيابية وجدل إنشاء البنك المركزي
إلا أننا كنا نتعرض لغياب البيانات في مكاتب التربية، وصعوبة التوفيق بين بيانات من عدة مصادر ومتناقضة، وحتى سيارة التدريب صودرت لصالح المدير العام.
ونواجه في المعاملات عبر الثلاث المؤسسات، مشكلات فردية مزاجية، بالموافقة أو الرفض، ولو كانت الإجراءات قانونية، ولا تستطيع جهة قانونية إلزام المسؤول، بتمرير المعاملات، للاستفادة من هذه المشاريع الخارجية، وعدم تعطيل العمل، بل يقال أحيانا "من حقه أن يدقق".
مقبل نصر في الكويت
وأحيانا المسؤول يجهل بالمشروع، ويريد الاطلاع على كافة أولوياته، من باب التعقيد، أو مقايضة توقيعه وموافقته بخدمة معينة، وأحيانا لمصالح ومكايدات حزبية، ليش فلان معكم وهو من حزب كذا، وفلان ليش ما يكون معكم، هل لأنه من حزب كذا، وهكذا، رغم أن الميثاق الوطني قد شمل الجميع، ولا علاقة لانتماء الموظف خارج العمل، حاسبه على عمله.
وكنت الجأ إلى أسلوب الفكاهة لتمرير بعض المعاملات، ففي إحدى المرات، غضب "السائح" لما شاهد مسؤولا يرمي الورق أمامي، ويقول إنه لن يوقع، وقال لي "لو رمي الورق من يدي قسما بالله أديه بالجزمة".
فقلت له الآن سيوقع، انتظر، ورديت الورق للمسؤول، ومازحته بكلمتين، وقد اتصلت قبلها بوسيط، فوقع المسؤول مباشرة، وهكذا تسير الأمور بالعلاقات الشخصية، لا بالنظام والقانون، وفنون الإدارة التي تدربنا عليها في معهد الإدارة لا وجود لها إطلاقا في الإدارة الحكومية بالبلاد.
تجربة التدريب عن بعد
كان لابد أن تطلع لجنة تسير المشروع على تجارب سبقتنا في مجال التدريب عن بعد، مثل الجامعة المفتوحة في بريطانيا، وتم الترتيب لذلك بواسطة اليونيسيف.
سافرت أنا و"السائح" إلى شمال غرب كندا، لنحضر المؤتمر العالمي للتدريب عن بعد في يونيو 1982، ولاية فانكوفر، لمدة أسبوعين، لنستفيد من تجارب الشعوب، وبعد ذلك كل مجموعة تدرس مستقبل التدريب، وتقدم مقترحات.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يسرد ذكرياته عن بدايات التعليم في تعز ورد المخلافي على مذيع في عيد الثورة
كنا في المجموعة العربية، وتزامنت جلساتنا مع اجتياح إسرائيل لبنان وحصار بيروت، قضينا الوقت المحدد نناقش مصير المقاومة، موقف العرب، الأمم المتحدة.
وعند الاجتماع لاستعراض المقترحات، تقدم رئيس جامعة الرياض وتكلم عن المجموعة فقال لهم: "لا حلينا مشكلة لبنان ولا مشكلة التدريب عن بعد فاعذرونا"، فضحكنا جميعا.
مقبل نصر في فانكوفر
ثم انتقلنا إلى نيويورك لمدة ثلاثة أيام زرنا رئاسة منظمة اليونيسيف، والتقينا حبيب همام (كان مسؤول التعليم في مكتب صنعاء لليونيسيف)، وشجعنا كثيرا بأن هناك دعم لا محدود لمواصلة التدريب أثناء الخدمة بالطريقة التي اقترحها خبير اليونسكو الدكتور لطفي سريال.
وهي تدريب في كل أسبوع يوم، يتناول فيها المتدربون مع المدرب وحدة تعليمية كاملة من الصباح إلى الظهر، طوال العام الدراسي، وفي الصيف شهر فقط للتدريب العملي في صناعة وسائل، برامج، تجارب.
ثم توجهنا إلى العاصمة لندن، لزيارة الجامعة المفتوحة، ومقابلة مدير عام إعداد وتدريب المعلمين مع رئيس جهاز التوجيه والتفتيش الأستاذ يحيى النونو.
اقرأ أيضا: مقبل نصر يتحدث عن وفاة المخلافي وسقوط صعدة بيد الملكيين واعتقال ياسين عبدالعزيز
وكان معنا أسبوع فراغ قبل الموعد مع الجامعة، فتعهد المجلس البريطاني في صنعاء أن ينظم لنا برنامجا يغطي هذا الأسبوع في رئاسة المجلس في لندن، وظل "السائح" يتواصل معهم من كندا ومن نيويورك، حول التفاصيل.
فقالوا له سينتظرونكم في المطار، ووصلنا المطار ولم نجد أحدا يرفع لافتة باسم المجلس، حتى ملينا الانتظار، فقلت لـ"السائح"، ربما لم يوافقوا، أنا أروح عند خالي، وأنت روح أينما تشاء، ونلتقي يوم برنامج الجامعة المفتوحة وهو برنامجنا الأساسي، وأعطيته تلفون خالي في ليفربول، وتلفون خال زوجتي في شفيلد.
وتواصل معي لاحقا، وكانت القطارات والسكك الحديدية مضربة إضراب شامل، والوصول بالباص يأخذ حوالي عشر ساعات، وقيل لنا فيما بعد إنهم انتظرونا في محطة الحافلات وسط لندن، ظنا منهم أننا سنركب حافلة من المطار، ولم يتوقعوا أننا نركب تاكسي.
وفي إحدى المرات، قالوا لنا معنا مأدبة غداء في فندق كذا، ووصلنا ولا خبر عند الفندق، فقيل لنا لاحقا إن السكرتيرة بلغت رئيس المجلس أن اليوم هو أول رمضان عند المسلمين، فحولها مأدبة إفطار وعشاء، ولم يتم إبلاغنا، فقط تم إبلاغ عبده علي قباطي، ويحيى النونو، وعبدربه جرادة.
اقرأ أيضا: مقبل نصر في حلقته السادسة يكتب عن: مواقف من حياة البيحاني والفريق العمري واغتيال مشائخ خولان
وعلى هامش الأنشطة كانت هناك أنشطة ترفهيه، وفي جزيرة فيكتوريا في المحيط الهادئ، شد انتباهي كثرة العجائز، فقيل إنها تحوي المتقاعدين من كل دول العالم، يصل إليهم راتبهم بانتظام على بنك الجزيرة.
افتتاح مراكز جديدة
حضرنا برنامج الجامعة المفتوحة، واستفدنا كثيرا منها، وحضرنا مؤتمر التدريب والتأهيل في برمنجهام، وانتهى برنامجنا، فأصر "السائح" أن يستضيفني في الخرطوم، يومين، وكانت الخرطوم في شهر يوليو، قمة لهيب الحرارة، وفي شهر رمضان أيضا، فتبخرت كل راحة قبلها.
مقبل نصر في فيكتوريا
زرت وزارة التربية السودانية، قابلت الوزير السوداني، وزرت معهد التأهيل والتدريب، اطلعت على تجربة السودان، وعدت إلى صنعاء.
وفي عام 1983، فتحنا مراكز جديدة في مأرب والمحويت والبيضاء، وانتقلت المراكز السابقة إلى تدريب مديري المدارس، والمراكز التي قبلها إلى تدريب المعلمين والمعلمات، ولي فيها ثلاث مواد تعليمية، طرق تدريس الرياضيات، ومادة الكسور الاعتيادية والعشرية، وطرق التدريس العامة.
وبدأ مركز البحوث والتطوير التربوي العمل برئاسة الأستاذ محمد هاشم الشهاري، وكان أول قرار من وزير التربية، في أول بحث تربوي علمي، هو تشكيل فريق البحث من دكتورين في جامعة صنعاء، وأنا، ومدير عام التخطيط حمود عبده ناجي.
والبحث حول توفير المعلم اليمني والاحتفاظ به، وقد استفدت كثيرا من خبير المركز في جمع المعلومات، تفريغ البيانات، معالجة البيانات، تفسيرها، حيث أعددتها بعد ذلك بنفسي، حين اعتذر دكتور الجامعة رئيس الفريق بكثرة أعماله في الجامعة.
الزنداني وزيرا للتربية
بدأ عام 1984، بكارثة زلزال ذمار، الذي أوجع قلوب كل اليمنيين، وبدأت سياسة التقشف وتجميد العلاوات والترقيات.
وتعين الدكتور عبدالواحد الزنداني وزيرا للتربية والتعليم، انتهج طريق الديمقراطية في التعيينات والتغيرات، حيث وسع مجلس الوزارة بدلا من اقتصاره على مديري عموم الوزارة والوكيل والوزير، ضم إليه مدراء الإدارات في الوزارة، ويجتمع المجلس للتصويت على المرشحين للتعيين في المناصب وتجمع الأصوات فورا فيأمر الوزير بإصدار القرار.
وبهذه الديمقراطية فاز الغالبية العظمى من جماعة الإخوان، ومع ذلك لم يسلم المرشحون من المشاحنات في تسريب أخبار الجلسات، مثلا فلان وقف ضدك، فلان أكثر واحد رفض ترشيحك، وتسبب ذلك في مشاكل وعداوات ومحاولة انتقام.
وانتهج مدير شؤون الموظفين، أسلوب التقارير السرية عن الموظفين، بموجب استمارة "يعبيها" مدير الإدارة عن كل موظف، ويسلمها لمديره العام ليعمدها، ثم يرسلها إلى شؤون الموظفين.
عبدالواحد الزنداني
وكان أحيانا المدير العام أو مساعده، يفشي أسرار التقارير إلى الموظفين، مثل مديرك زعلان منك، أنت مش عاجب مديرك، كتب عنك كذا وكذا، وأوجدوا مشكلة بين الموظفين والمدراء، فتم إلغاء التقارير السرية في أول تجربة لها.
في هذا العام، عملت دراسة عن الإدارة التربوية والتعليمية في اليمن، وقدمتها في ندوة اتحاد المعلمين العرب في دمشق، وقد استفدت في إعداد الدراسة من ملاحظات خبراء ألمان ضيوف المعهد القومي في صنعاء، في ندوة الإدارة في البلاد العربية، والتي حضرها ممثلون من كل الدول العربية، وكانت دراستي محل إعجاب.
وفي ندوة الإدارة في البلاد العربية، رافقت الفريق الألماني في رحلة إلى جبلة وتعز، ولم أعرف سبب إصرارهم على زيارة مدينة جبلة.
أما في ندوة اتحاد المعلمين العرب في دمشق، فقد أقيمت لنا مأدبة على نهر اليرموك، وتفاعل معنا محافظ درعا وهو يصف المكان بالقول: "هون خاض الرفيق خالد بن الوليد أولى نضالات الأمة العربية"، فلم أتمالك نفسي من الضحك.
استفزاز مصري وتفاخر كويتي
عملت أيضا دراسة عن إعداد المعلم اليمني وتدريبيه، قدمتها إلى أسبوع التربية الرابع عشر في الكويت، وقد استفزني أكاديمي مصري بسؤال: هل المعلم اليمني يستفيد من خبرات المدرس المصري؟ فرديت عليه: لا.
والسبب أن كثير من المصريين غير تربويين، وتدخل القباطي، ووضح لهم بالقول إن المعلمين المعارين سبعة عشر ألفا، وهؤلاء مؤهلون لا شك في ذلك، لكن لدينا ثلاثة وخمسون ألفا يتم التعاقد معهم في السفارات، وكلهم غير تربويين، بل ويكشف الواقع بأن عددا منهم شهاداتهم مزورة.
وزدت على كلام القباطي بالقول: إذا المعارون 17 ألفا، خليط بين مصري وسوري وأردني وسوداني، فكيف نعرف ممن استفاد المعلم اليمني؟
اقرأ أيضا: مقبل نصر في حلقته الـ10 يتحدث عن تعيينات الإرياني للإخوان في التربية والهاشميين في السفارات
كما استفزني مدير جامعة الكويت، حين أفتخر بأن جامعة الكويت تتابع أحدث البحوث في أمريكا وتترجمها أولا بأول، فقلت له: لماذا لا تبحث جامعتكم في قضايا الكويت ومشكلاتها، بدلا من شراء بحوث تعالج واقعا غير واقعكم؟
خطأ المماثلة والمساواة
كان عبده علي قباطي، شغله الشاغل معاهد المعلمين والمعلمات نظام الخمس بعد الابتدائية ونظام الثلاث بعد الإعدادية، لذلك استفرد بمشروع وكالة التنمية الدولية ومشاريع البنك الدولي، بل وارتبطت به شخصيا.
واستطاع أن ينوع المشروع للدعم الإداري، وتدريب القيادات الإدارية في الوزارة والمكاتب، ومع البنك الدولي في بناء معاهد جديدة وتجهيزاتها وتجهيزات معاهد قائمة.
مقبل نصر في لندن
ولأن اليمني يحب المماثلة والمساواة والمشابهة، يسعى لاستنساخ المشاريع بدون كفاءة ولا إعداد ولا إمكانيات، المهم أن يكون عنده الاسم مثل غيره، ويحصل على أوامر عليا وبعدها قوة لا تقبل أي مبررات علمية.
ولهذا تم استنساخ معاهد وكليات صورية شوهت الكل، وضاعت الكفاءة في الزحمة والكثرة، وهذا حاصل في كل المشروعات الأخرى، حتى في غير التربية.
تقييم رائع للمشروع
كان مشروع تدريب المعلمين والقيادات التربوية، مصمم لخمس سنوات، وسينتهي في عام 1985، ولابد من تقييم المشروع وهو قائم، لذلك تشكلت لجنة التقييم من اليونيسيف (استقدمت خبير خارجي على حسابها)، وجامعة صنعاء، والوزارة.
درست اللجنة المشروع واتفاقاته وإنجازاته، وسافرت لتزور مراكز تدريبية في الحديدة وتعز، شاهدتُ ورشات العمل في صناعة وسائل تعليمية من خامات البيئة يقوم بها المعلمون المتدربون والمدربون.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يتذكر سنوات العودة إلى صنعاء والانقلاب الناصري الفاشل وتعيين الأصبحي وزيرا للتربية
حاورتُ المدربين والمتدربين، وزارت مركزا ريفيا في جبل حبشي، شاهدت نفس ما شاهدته في المدينة.
وكانت نتائج التقييم ترفع الرأس، أشادت بنجاحه إلى حد كبير، وانتهى عقد حسين بيومي السائح، وسافر إلى بلاده السودان، وهو مرفوع الرأس بنجاحه في إدارة المشروع، ونجاحي في مشاركته.
يتبع في الحلقة القادمة.
*خاص بالموقع بوست.
