[ تحدثت هديل اليماني عن مسيرتها الصحفية في اليمن ]
هديل اليماني واحدة من الوجوه النسائية اليمنية، التي صنعت لنفسها اسما، وحضورا ومكانة في وقت قياسي، واستطاعت أن تخوض مجال الصحافة الميدانية، وتثبت جدارتها، في ظل مجتمع محافظ، وظروف بالغة التعقيد، فرضتها الأزمة في اليمن أولا، ثم الحرب ثانيا.
أسهمت عوامل عديدة في صناعة هديل، بدءاً من أسرتها في مدينة تعز، مرورا بمدرستها، وصولا إلى المجتمع الذي عايشت أحداثه، وكان له دورا في إخراج موهبتها، وشغفها الصحفي إلى العلن، وخلال فترة وجيزة أصبحت مراسلة ميدانية لقناة الجزيرة من مدينة تعز، لتعيش فصول قصة لا تنسى، من العمل الصحفي، والتجربة الجريئة التي تستحق أن تروى.
عن هذه المسيرة والتجربة، يسرد الموقع بوست تفاصيل من حياة هديل، ويعيش معها حياتها منذ البداية، كطفلة صغيرة في المنزل، ثم طالبة في المدرسة، مرورا بهديل المراسلة الميدانية، وصولا إليها كأم وزوجة، وذلك في حوار خاص ضمن سلسلة "وجوه يمنية" التي ينشرها الموقع بوست عن شخصيات يمنية، تمكنت من صنع نفسها، وتقديم تجربة فريدة، رغم المصاعب، والتحديات.
*لكل منا طفولته التي عاشها، وساهمت في صناعته، وتشكيل فكره، واتجاهاته في الحياة، حدثينا عن الطفولة بالنسبة لك؟
**عشتُ في بيئة هادئة، وأسرة متزنة في العاصمة صنعاء، أسرتي تؤمن بالدين والقيم والعادات، أبي وأمي يعملان في السلك التربوي، وفي وسط هذا الجو عشتُ، وتشكلت ملامح شخصيتي.
كانت أسرتي تفضل البنات على البنين، وكثيرا ما كان أبي يعلمني دوريا في الأخلاق، وكيفية التعامل مع الأخرين، وكيف أتخذ القرارات دون أي استعجال أو تهور، ومنحتني أسرتي مساحة حرية كبيرة، قد لا تتوفر لدى بقية الأسر، لقد منحتني أسرتي الأدوات التي أواجه بها العالم، والحقيقة أقول: "إذا كان هناك اسم لهديل اليماني في العالم اليمني والعربي ففضل ذلك يعود لأسرتي".
عشتُ طفولة جميلة، ولكن في شقاوة، ففي المدرسة كنتُ طفلة ليس من السهل تجاوزها، وكان لي أصدقاء من الذكور والإناث، لأني درستُ الأساسي في مدرسة خاصة ذات نظام مختلط، ودائما ما أحاول إثبات حضوري في المدرسة، لا زلتُ أتذكر نعمة مديرة المدرسة، ولمياء معلمتي في الصف، وربما يعود أسلوبي في طرح الأسئلة وإثارتها إعلاميا إلى تلك الطبيعة التي كنتُ عليها منذ سنوات دراستي الأولى.
بالنسبة لوالدي فهو رجل مثقف، ويحب مطالعة الكتب، وكان يحفزني على المطالعة والقراءة، وكان يجلب الكتب إلى البيت، وقصص الأطفال، وتصل مجلة العربي الصغير كل أسبوع، وكان معجب كثيرا بمشاهدة البرامج الحوارية التي كنتُ أشاهدها معه، وكان يسمح لي بالدخول في نقاش حر، حول مواضيع كثيرة.
أما أمي، فكان لها صوت جميل، وتحب الأناشيد الخاصة بالأطفال، حتى أن اسمي "هديل" أخذ اسم فنانة كانت تغني للأطفال، علمتني أمي طريقة قراءة القصص، وكثير من تقنيات الصوت، والقراءة الصوتية، وفي المدرسة كنتُ أعد برامج ثقافية في طابور الصباح، ولذلك أعتقد أن ميولي الإعلامية ربما تشكلت في مرحلة الطفولة المبكرة.
*هل كان لديك الطموح منذ الطفولة أن تكوني إعلامية؟
**لم أفكر يوما أن أكون إعلامية في الطفولة، اذكر أنني كنتُ حريصة على متابعة بعض البرامج الوثائقية والأفلام بانتظام، وكان والذي يمنعني من مشاهدة المسلسلات ذات الثلاثين حلقة، لأن ذلك مضيعة للوقت، وكنتُ أشاهد أفلاما هندية تأتي في قناة اليمن أسبوعيا- ولم يكن هناك ستالايت- فكانت الأسرة تجتمع حول التلفزيون لمشاهدة تلك الأفلام، والبرامج الوثائقية، غير أن أمي تتذكر أنني كنت أستخدم الأدوات المطبخية التي على شكل ميكرفون، وأظل أتحدث مع نفسي أمام المرآة، وكان ذلك بنظر أمي شيء مزعج، ودائما ما كانت تحذرني من تكرار ذلك السلوك لأسباب لها علاقة بالصحة النفسية.
كان والذي يحب نقد البرامج والأخبار والمسلسلات، وهو ما عزز عندي وعي الملاحظة حول تلك البرامج، وأنني بالإمكان أن أصنع ما يشابهها، وشاهدت برنامج "فرسان الميدان" الذي يقدمه الراحل يحيى علاو، وبرامج أخرى، ولكن عندما جاء الستالايت إلى المنزل، كانت قناة الجزيرة تأخذ مساحة واسعة في المشاهدة، يليها الأفلام الوثائقية.
*حديثنا عن الخطوة الأولى نحو الإعلام، وهي تلك البداية التي يشعر المرء أنه ولج عالما جديدا، ورأى أفقا مضيئا يصل به إلى نهاية جديدة ومشرقة، تلك اللحظة أعتقد أن لا أحد ينساها؟
**البداية كانت من الثورة اليمنية 2011، شاركتُ فيها كمواطنة وثائرة في وجه النظام، ولم أندم على المشاركة في ثورة 11 فبراير، فقد كنتُ معارضة لنظام علي عبد الله صالح، وسوف أظل معارضة إلى الأبد.
مثلت الثورة محطة مهمة في اكتشافي كإعلامية، وكانت نقطة تحول كبيرة في حياتي المهنية، من خلال تقديمي لبعض البرامج في ساحة التغيير، وحديثي ونقاشاتي وتصريحاتي لوسائل الإعلام، جعل البعض يلاحظ موهبتي في الطرح والحديث، فكان كثيرًا ما يقترح عليا الأصدقاء بأن أدخل عالم الإعلام كمجال دراسي ومهني، فلولا ثورة 2011 لما كنتُ إعلامية، لأن القنوات بعد الثورة فتحت وتضاعف عددها، الأمر الذي أتاح لي مساحة أكثر للدخول إلى عالم الإعلام.
بعد 2011 أعلنت قناة يمن شباب، وهي قناة محلية لا تتبع النظام الحاكم وقتذاك، احتياجها لشباب إعلامين للعمل معها، وكانت القناة حديثة النشأة، وتعكس صوت الشباب، وتقدمتُ للعمل فيها، فحالفني النجاح.
في البدء لاقيتُ معارضة من والدي للدخول في المجال الإعلامي، لأن وسائل الإعلام في البلد تسيطر عليها قوى النظام الذي يعارضه والدي، لكن بعد الثورة وجد الفضاء الإعلامي في اليمن فسحته، فسمح لي أبي بالعمل، والدخول في المجال الإعلامي.
*أود أن أسألك عن بعض المفاهيم لأعرف ماذا تعني بالنسبة لك، وهما مفهومي الإنسان والإعلام؟ كيف تعرفيهما من وجهة نظرك الذاتية.؟
**يتخذ مفهوم الإنسان مركزية كبيرة في فكري، بالإضافة إلى مفهوم الحرية، فالإنسان لا بد أن يكون حرا كي يحقق إنسانيته، أو لكي يكون إنسان بالمعنى الدقيق للكلمة، الإنسان اليوم أقل أهمية من المادة، وهناك اهتمام بالمادي أكثر مما هو إنساني، لذلك كانت هذه الحروب التي لا تعطي قيمة مركزية للإنسان.
أما الإعلام فأداة وسلاح ذي حدين، يحدده من يستخدم، وكيف يستخدم، وماذا يملك، لكي يحرك هذه الأداة، والإعلام ليس تلفزيونا وصحفية وراديو، ولكن وسائط إلكترونية أيضا، وبإمكان أي إنسان أن يكون إعلاميا اليوم، أما في اليمن فالإعلام لا يزالبتدائيا، ولم يتم تقديم أداء إعلامي كاف، يليق باليمن وبإرثها الحضاري والتاريخي.
*من خلال إشارتك للإعلام في اليمن، كيف هو الإعلام في اليمن؟
**في اليمن هناك فقر أدوات، لذلك لا يتلقى الصحفي الخبرة الكافية، ويحتاج في اليمن لزمن طويل لكي يتساوى مع نظرائه من الدول الأخرى، كمصر مثلاً، وهناك افتقار للمبادئ والأسس الإعلامية، ومن حسن حظي أنني عملتُ مع قناة الجزيرة، لقد صقلت مواهبي، وما زلت أتعلم دروسا جديدة، وواجهتُ في اليمن بداية عملي صعوبات كثيرة في العمل، ولكن تعلمتُ كثيرا من خلال عملي في الجزيرة.
لا مجال للمقارنة بين نشرات الأخبار اليمنية الرسمية مثلا، ونشرات الأخبار الخارجية، حتى النقاشات والمواضيع التي تعرضها، ولكن عندما جاءت القنوات التجارية بدأنا نسمع أغاني جميلة، وبرامج حلوة، وكان الإعلام الحكومي يقدم أداء سيئ، فيما القنوات الأهلية تقدم برامج جيدة نوعا ما، ولم يكن هناك برامج مؤثرة، وإذا وجدت مثل هذه البرامج فتعطى دورة برامجية واحدة لا تستمر كثيرا، أما البرامج التي أثرت فينا فلا توجد، وكنا متفوقين في الراديو، ولكن في التلفزيون لم نكن متفوقين، وكثير من القضايا لم تأخذ حقها في الإعلام الحكومي، كالمرأة والطفل والشباب. إلخ.
*كيف ساهمت الجامعة في رسم مسارك الإعلامي؟
**الجامعة لم ترسم مساري الإعلامي أبدا، لم يكن هناك قاعات للدراسة، ولا أستديو مهيئ للتطبيق، والمنهج التعليمي لا يدعم أن تكون إعلاميا، فضلا عن صناعة إعلامي متمكن، كما أن الجامعة لا تمنح الأدوات الأساسية التي تستطيع من خلالها أن تبني نفسك، ومستوى النقاشات في الكلية كان حول القديم، وخيالات بعيدة عن نطاق الواقع، مثل الحديث عن تأريخ التلفزيون.
نحن تلقينا دورات فيما بعد، وتعلمنا الإعلام من خلال عملنا ضمن طاقم الجزيرة في اليمن، وكان هناك صحفيون ممتازون، وهم الذين أتاحت لهم الفرصة أن يتلقوا دورات في لبنان، أو في دول عربية أخرى قديما، وفي عصر الانفتاح السياسي.
لقد تغير الكثير من مفاهيم الإعلام، أتذكر أنني كنت في السابق أعد تقريرا ميدانيا يأخذ مني عشر دقائق، وكان المفترض إنجاز فيلم في العشر الدقائق، لأننا في عصر السرعة، وكل لقطة ثلاث ثوان، وهناك قاعدة:" في خلال ثلاثين ثانية إذا لم تقنع المشاهد يغير المحطة".
عندما لا تأخذ المعرفة الأساسية في الجامعة تعمل وأنت في مؤخرة الركب، ولا تركض بمستوى إيقاع زملائك في العمل، وتشعر بالحسرة، لأنهم يسبقونك بسنوات طويلة، والكلام ليس للانتقاد، ولكن لأنه الواقع فعلا، ويتطلب إجراء تغيير في المنظومة.
*ما هي أهم البرامج اليمنية التي نالت إعجابك؟
**"برنامج فرسان الميدان لعلاو" و "وجوه العدالة" لعلي صلاح أحمد" وبرنامج "صور من بلادي"، وبرنامج إذاعي "مسعد ومسعدة"، أتذكر أن هناك برامج محرجة للغاية، منها مَثَلاً برامج العيد التي كانت تستضيف فنانين يمنيين، كنت أشاهدها وأشعر بالخجل، كما لو كانت أنا من يقدم ذلك البرنامج.
*لابد أنك تذكرين أول تقرير تلفزيوني لك، دعينا في صورة ذلك المشهد، وما هي المعاني التي تركتها بالنسبة لك؟
**في أول تقرير تلفزيوني شعرتُ بقلق كبير، لكن نال التقرير إعجاب القناة، وحاز برنامجي" من وسط الزحام "المرتبة الأول على مستوى القناة، حقق ذلك لي شهرة شعبية واسعة، وعرفني على الجمهور في اليمن، كنت حينها في بداية العشرينيات من عمري، وأرادت من خلال ذلك البرنامج الشعبي أن أقول بأن اليمن تتضمن جوانب مشرقة، والحقيقة أنني كنت أحب الكاميرا، والكاميرا تحبني، وليس كل وجه تحبه الكاميرا.
انتقلتُ للعمل في قناة الجزيرة، وهناك اختلف الأمر كثيرا، أول تقرير لي في الجزيرة عن مرضى السرطان في اليمن، ومن المؤكد أنه خضع للتعديلات والملاحظات الفنية الكثيرة، قبل عرضه في الشاشة، لكن الفرحة انتابتني عندما شاهدتُ التقرير يبث في شاشة كبيرة، مثل الجزيرة، منحنى ذلك شعورا بالزهو، بأنني إعلامية حسب مقاييس قناة لها احترامها في العالم.
* هل كانت الأسرة في اليمن عائقا أمامك، أم أنها حدت من ظهورك الإعلامي؟ فالمعروف في اليمن أن الأسر ذات تقاليد لا تحبذ ضهور الفتاة في الشاشة؟
**ليس هناك معوقات أسرية يمكنني ذكرها، فقد دعمتني أسرتي لأصبح إعلامية، لكن اسألني عن التحديات الاجتماعية فأجيبك المجتمع ندبة في القلب، تحبه ويعرضك للمعاناة، أولاً لا يدرك الكثير من أفراد المجتمع اليمني ماذا يعني أنك صحفي، وهناك تحديات سياسية أيضا، فالمجتمع لا يتضامن مع الصحفي، إذا ما كتب عن فساد حكومي، وتعرض للمساءلة والاستجواب، من قبل الجهات، ويتخلى عنه سريعا، والسبب أن هناك صورة في الذهنية لدى المجتمع: "أنت صحفي إذا أنت صاحب مشاكل".
هناك مشاكل تتعلق بالمؤسسة الصحفية التي تعمل لديها، لا تعطي الموظف الصحفي راتبه ومستحقاته إلا بشق الأنفس، وزد فوق ذلك أن الصحفي يتعرض للابتزاز من قبل المؤسسة التي يعمل لديها.
*لو تحدثنا عن العوائق التي تتعلق بكونك أنثى وإعلامية في مجتمع مثل اليمن ما هي؟
**الصحفية الأنثى لا تستطيع الوصول إلى المعلومات، وتواجه صعوبة في ذلك، بعكس الذكور الصحفيين، لأن الصحفيين الذكور من خلال جلسة قات مع مسؤول في الدولة، يستطيع الخروج بمعلومات وتحليل سياسي، بينما الفتاة لا تستطيع الوصول إلى المعلومة إلا بصعوبة، لأن محددات المجتمع تفرض عليها ذلك، وتحد من اتصالها بالذكور.
كما أن المجتمع في اليمن يريد من الفتاة أن تشغل وظيفة محددة، أن تكون طبيبة مثلا، فالمجتمع اليمني ينطلق من مصالحه في التعامل مع الأنثى، وتعرضت للرجم بالحجارة في بعض الحارات في صنعاء، وكانت حينها عاصمة اليمن، وهناك حارات لم أكن أستطيع الدخول إليها للعمل، وحدث أن تعرضت للرمي بالفواكه من قبل بعض الأفراد.
وهناك سوء تعامل من المسؤولين في الدولة، فبعض المسؤولين يريدونك كإعلامي كما لو كنت موظفا لديه، تذهب للقاء مسؤول في الدولة، فيجعلك تنتظر أمام باب مكتبه لساعات، ليس لشيء إلا ليوحي لك أنه مسؤول مهم، وأن وسائل الإعلام تقف في طوابير أمام بوابته، أذكر لك قصة حدثت معي: "ذات يوم كنتُ بصدد إجراء مقابلة مع وزير حجزتُ موعدا معه مسبقا، وجئتُ على الموعد المحدد، وفي النهاية انتظرتُ لساعيتين أمام الباب ما جعلني في النهاية أغادر"، صحيح قد يتساهل المجتمع اليمني مع الأنثى في بعض الجوانب، ولكن إجمالا يتعاملون معها بسوء فهم، ويعتقدون أن الرجل أذكى من المرأة، ويتعامل معها انطلاق من هذا الرأي.
*ولكن هناك مزايا بالمقابل لعمل الأنثى كصحفي في اليمن؟ أليس كذلك؟
**هناك ميزة واحدة فقط، مثلاً في أيام الحرب عندما كنت أغطي في المواقع والجبهات، وكنتُ أستطيع الدخول إلى بعض البيوت بحجة كوني أنثى، والوصول للمعلومات، بعكس الذكور، الذين لم يكن مسموحا لهم بالدخول، لأسباب تتعلق بالعادات والقيم الاجتماعية.
*تقولين إن هناك فرقا بين أن يكون الصحفي شجاعا وبين أن يكون متمردا، هل ممكن التوسع في التفاصيل حول هذه النقطة تحديدا؟
**لم أحاول أن أكون متمردة على المجتمع، ولا على عاداته، لأن التمرد على المجتمع كان يمكن أن يعيق مهنتي، ويقعدني في البيت، وتعاملتُ بحذر من الأشياء التي يمكن أن يتحسس منها المجتمع، فالمجتمع لو كرهك ربما لن تنجح في أن تعيد العلاقة معه مرة ثانية.
لم أكن أحب التصادم مع المجتمع، لا بملبسي، ولا بكلامي، ولا بطبيعة الموضوعات التي أتناولها، فأنا كإعلامية ليس من اللازم التمرد على المجتمع، وكإعلامية مهمتي فقط نقل رسالة المجتمع، وليس تصحيح مفاهيم، أو عادات، أو تقاليد المجتمع، وليس ذلك فحسب، ولكن كنتُ أسمى المفاهيم بمسمياتها، كي لا يفهم أني أشوش على الرأي العام وأضلل المجتمع.
*لنتحدث عن تغطياتك الميدانية في زمن الحرب في اليمن متى بدأت؟ وكيف كانت البداية؟
عندما بدأتُ الأحداث في صنعاء 2014، عملتُ مع زملاء في تغطية أحداث سقوط صنعاء، واتفاق الأمن والشراكة، نتيجة لذلك دخلت البلاد في حالة اللادولة، لذلك غادرتُ صنعاء، كنازحة، إلى مدينة تعز، حينها تزوجت، وتوقفتُ عن العمل الإعلامي، ثم غادرتُ البلاد إلى تركيا والأردن، ولكن عندما بدأت الحرب رأيتُ أنه من واجبي العودة إلى الميدان.
عدتُ إلى مدينة تعز، وكانت حينها مدينة محاصرة من كل الجهات، دخلتُ تعز عن طريق جبلي شديد الوعورة، اسمه "جبل طالوق "، وهو جبل شاهق، كان المنفذ الوحيد لمدينة مخنوقة، شاهدتُ السيارات المنقلبة في الطرقات والجبال، وبكيتُ كثيرا، ورأيتُ الناس تركب الحمير والبغال، وكنتُ أمشي سيرًا على الأقدام، ووصل بي الجهد مرحلة لم أعد أستطيع فيها مواصلة الطريق، وعندما وصلتُ المدينة تزامن ذلك مع عملية عسكرية لفتح منفذ الدحي، وهو منفذ وحيد لمدينة محاصرة، عندها بدأتُ عملي كمراسلة ميدانية، لتغطية المواقع العسكرية، والدمار، والحرب، والقتلى، والجرحى.
كنا في بلاد لا تعطي حقوقا للإنسان العادي، فضلا عن حقوق الصحفيين، وإجمالا لم تكن أطراف الحرب تحترم الصحافيين، ولكن فقط الجهة الحكومية كانت تولي احترام لا بأس به في البداية، وعندما شاهدوا تغطياتنا في القنوات قدموا لنا كل الاحترام والتقدير والدعم، وأذكر أن تعامل القادة العسكريين في جبهات تعز، كان في قمة الرقي والأخلاق، والسبب يعود لكونهم من خلفية تربوية، فهم معلمون، وكانوا يتعاملون بإنسانية.
كان العمل الميداني صعبا جدا كنت أزور الجبهات الملتهبة، بعد التنسيق مع كافة الأطراف، وكنت أجري مقابلاتي من وسط جبهات الحرب، غطيتُ الكثير من المشاهد الوحشية التي تسببت لي بأضرار نفسية، لاحقتني لفترات طويلة، لقد كانت تلك المرحلة من أصعب المراحل في حياتي.
كان العمل صعبا جدا، كنتُ أخرج الجبهات، وأظل من الصباح حتى المغرب، دون أن ألقى حماما، أو أجد ماء صحيا نقيا، أو أكل صحي، وبيئة العمل كانت قاسية، فلم يكن هناك كهرباء، وكنا نصطحب المولد الكهربائي معنا من أجل تشغيله، إذا احتجنا لشحن تلفون، أو إكمال العمل، وكنا نأخذ الديزل كوقود للسيارة، ونبحث عنه في السوق السوداء، بسبب انعدامه كليا في أكثر الأوقات.
بالنسبة للمستوى الأمني، فكان محور تحد أكثر تعقيدا في مهمتي الميدانية، لقد كان متدنيا جدا، كنتُ أضطر خلال تحركاتي في الميدان لسؤال الجنود عن أكثر الأماكن أمانا، وخلواً من القناصة الحوثيين الذين كانوا يستهدفون كل كائن حي يتحرك أمامهم، بما في ذلك الحيوانات، ناهيك عن البشر.
وأتذكر قول أحد الجنود لي ذات مرة عندما سألته عن وجود منطقة آمنة، أكد لي ذلك الجندي خلو المكان من أي قناصة، ولكني عندما دخلتُ المنطقة، تفاجأتُ بوجود قناص يطلق النار علي والطاقم المساعد، فعدتُ أدراجي، وعدُت للجندي لأسأله باستغراب، عن تأكيده لي بعدم وجود قناصة في المكان بينما اتضح وجوده، فرد عليا بأن القناص في العادة يكون في مثل ذلك الوقت نائما، حينها ضحكتُ وأدركتُ أن مستوى الاحتياطات تختلف من العسكري إلى الصحفي، الذي يعمل في الحرب، دون أن يكون له نظام حماية.
من المأساة أننا كنا نخرج فريقا لتغطية الحرب، ونعود وقد فُقد أحدا منا، لقد كان خوفا أن تخرج ولا تعود، وقد فقدنا أحد الزملاء الصحفيين، وهو الصحفي وائل العبسي، عندما خرجنا من مكان واحد، وكنا في منطقة واحدة، ورجعنا نحن، ووائل لم يعد.
*لحظات أثرت فيك كثيرا أو كادت أن تودي بحياتك؟
**ذات يوم استهدف صاروخ إحدى المنازل الصغيرة الواقعة فوق تل كبير، وعندما ذهبت لتغطية الحادثة، نبهني رفاقي بالسير بحذر، بالقرب من الحادث، بسبب أن الأرضية لاتزال حينها رخوة، وعندما دخلتُ للمنزل الصغير كان المشهد مروعا للغاية.
في المنزل شاهدتُ أذنا بشرية، وبقايا لحم وشعر محروق، وأظافر آدمية، كان ذلك هو أكثر مشهد مروع شاهدته في حياتي، لحظتها لم أشعر بالزمان والمكان، وفقدتُ إحساسي، وكنتُ أمشي لا أدري إلى أين، وسقطتُ أرضا، وتدحرجتُ بجانب التل، وكان ذلك حادثا بسيطا أصبتُ فيه برضوض، لولا إنقاذ زملائي لي، لكني عندما تمالكتُ نفسي قررت الذهاب إلى المشفى لمعرفة ماذا حدث، وتغطية القصة كاملة، وجدت أن الأم والابن توفيا، وتداخل اللحم مع العظم، بفعل انفجار الصاروخ بهما، أما الأب فكنتُ أشاهده يستفيق ويغمى عليه مجددا، لهول ما حدث لأسرته.
وهناك موقف آخر أثر بي كثيرا، كنتُ أعد لتقرير حول استقبال الأهالي في تعز لعيد الفطر المبارك، وكان ذلك قبل العيد بيوم واحدة، وذهبتُ لمشاهدة بعض الأسر كنموذج فقط، ودخلتُ أحد البيوت، وكان ذلك قبيل موعد أذان المغرب بساعتين، فوجدتُ أسرة تعيش في ظلام دامس، ليس لديهم أي أثاث في البيت، والأم لديها طفلة صغيرة، تعاني من سوء التغذية، وكانت تلك الأسرة لا تجد شيئا من الطعام في البيت، حتى الماء لم يكن يتوفر لديها.
ذلك المشهد أصابني بالذهول، تمنيتُ لو أن الأرض ابتلعتني، وعندما سألتُ الأم عن حال الطفلة التي تكاد تموت من سوء التغذية أجابت الأم أنها لا تستطيع إرضاعها لانعدام الطعام، هذا المشهد بقي في ذاكرتي وأعتقد سيظل إلى الأبد.
*ألا تفكر هديل اليماني العودة إلى الميدان مرة ثانية لتغطية الأحداث في اليمن؟
**لا أفكر بالعودة للميدان من جديد، أعيش حاليا في دولة قطر، وبدأت منذ سنوات بالدراسة والتخصص في أحد العلوم الاجتماعية، وأنتظر لحظة التخرج التي لطالما انتظرتها.
لدي الآن توأمان "أنور وزيدان"، ويمثلان لي هدية كبيرة، أصبحوا بالنسبة لي أولوية، ويجب أن أعتني بهما، لو عدتُ إلى الميدان فسأعيد تقيم المخاطر بطريقة أخرى، فالأمومة تجعل المرء جبانا، في بداية مسيرتي لم يكن أولادي موجودين، أما الآن فهناك من يناديني: "ماما".