[ أرشيفية ]
بعد أن نفدت مدخراتها لم يكن لديها سوى خاتم زواجها الذي كان قد مضى عليه في أصبعها 25 سنة، وخلال ذاك العمر لم تكن تتوقع أنه سيأتي يوماً تلجأ فيه لبيعه من أجل متطلبات معيشية، بل إن أروى (48 سنة، مُعلمة مدرسة) تتحدث عن كونها تأخرت كثيراً في بيع خاتمها، فمعظم صديقاتها سبقنها في بيع خواتمهن بسبب ظروف الحرب وانقطاع الرواتب في بلادها، وكثيراً منهن لهن حكايات مؤلمة!
يشتري هجوان، وهو من أشهر باعة الذهب في شارع الدفعي وسط صنعاء، عشرات الخواتم من النساء يوميا، ويتحدث، لـ"القدس العربي"، وهو يُخرِجْ من فترينة زجاجية كومة من تلك الخواتم، عما اعتبره حالة يومية يشتري خلالها ما بين خمسين إلى مئة خاتم.
ويقول عبدالله غالب وهو صائغ أيضاً "أعرف جيداً، وأنا اشتري هذه الخواتم، أن وراء كل منها قصة من العوز والألم، لأن بيع أي شيء من المجوهرات يكون صعباً ومؤلماً جداً على المرأة ما بالك ببيع خاتم الزواج، بل إن أحد الخواتم التي اشتريتها عليه تاريخ زواج يعود إلى سبعينيات القرن الماضي".
ولم يعط نائب رئيس جمعية صاغة الذهب في صنعاء يحيى مثنى، رقماً أو نسبة معينة عن ما يتم شراؤه يومياً من الناس في سوق الذهب بصنعاء، لكنه تحدث عن أن ارتفاع مبيعات الناس لمدخراتهم من الذهب للتجار قد غطى نسبة كبيرة من احتياجات التجار من الذهب، فاستطاع التجار بذلك مواجهة معوقات استيراد الذهب من دبي جراء الحرب والحصار. يقول "صار سوق الذهب في صنعاء يعتمد كثيراً على ما يتم شراؤه من الناس بدلاً عن الاستيراد".
ظلت سلوى (35 سنة) ترفض بيع خاتم زواجها لعل الحرب تتوقف والظروف المعيشية تتحسن، لكنها بكل ما كانت تملكه من إصرار وعناد وتمسكاً بخاتمها مع أملٍ بتوقف الحرب قريباً، خضعت، في الأخير، لقسوة الظروف مع استمرار تأزم الحالة الاقتصادية لعائلتها، وباعته بخمسين ألف ريال (150 دولارا)، تتحدث، وهي تنظر لأصبعها، وقد صارت بلا خاتم "لم أستطع حتى أن اشتري خاتم فالصو (خاتم المنيوم مطلي بالذهب) بدلاً عنه، وهذا أفضل بالنسبة لي، لأنني أريد أن أظل أتذكر دائماً أنني بعتُ خاتمي، ولا أريد أن أنسى ذلك، لا أريد ان أنسى الحرب"
وهي تتحدث لـ"القدس العربي" سردت حكاية ظريفة مع ابنها الأصغر عندما سألها عن خاتمها ولم ترد، فقال لها "إذن أنتِ لم تعودي زوجة بابا"
أما منيرة، أم محمد (40 سنة) فتقول "لم اتخيل في يوم من الأيام أنني سأحتاج لأن أبيع خاتم زواجي مطلقاً، وعندما بعته دخلتُ في حالة نفسية لعدة أيام".
توقفت عن الكلام وهي تنظر لصديقتها ألطاف (35 سنة) الواقفة بجانبها، التي باعت أيضاً خاتمها واشترت بدلاً عنه خاتماً من فضة، وتعلل ألطاف "بعد أن بعتُ خاتمي لم أستطع أن أبقى بدون خاتم، ولهذا اشتريت خاتماً من فضة، لكني أنظر إليه دائماً وأتذكر ما وصلنا إليه وأخاف، أيضاً، مما سنصير إليه غداً".
استمرار تصاعد الحرب المستعرة في البلاد منذ ثلاث سنوات انعكس في استمرار تدهور أحوال الناس المعيشية هناك، وهو ما يمكن قراءته في صور عديدة، ولعل من أبرز تلك الصور ما يعكسه بيع العائلات اليمنية وبخاصة في المحافظات الشمالية لمدخراتها من الذهب، والذي يمثل تعبيراً قاسياً لصورة من صور الافتقار الشديد الذي وصل إليه الناس هناك، وتسببت به الحرب ومعها تجاهل سلطات الحرب لمسؤولياتها.
بل إن من كثرة ما تشتريه معارض الذهب في ميدان التحرير بصنعاء من مبيعات الناس، فان بعضها توقف عن الشراء مع نفاد سيولتها النقدية، ولهذا يقول الصائغ عبدالحبيب الذبحاني "غالبية الناس صارت تدخل سوق الذهب لتبيع لا لتشتري".
يتحدث عبد الحبيب عن حكايات مؤثرة لبعض ممن باعوا مدخراتهم في متجره، فأول مرة -الحديث لعبدالحبيب- يأتي الشخص لبيع الأقراط أو أي قطعة صغيرة على أمل أن الانفراج سيكون قريباً، فإذا به يعود عقب فترة لبيع قطعة أخرى، وهكذا حتى يأتي في آخر الأمر ومعه خاتم زوجته أو تأتي به الزوجة نفسها وأحياناً -في تقديري- يكون دون علم زوجها واستجابة لضغوط قاهرة من متطلبات الحياة المعيشية.
وتسببت الحرب المستعرة في البلاد، في انهيار اقتصاد البلد الأفقر في الشرق الأوسط وارتفاع مؤشرات الفقر بين الناس لتشمل 80 في المئة من السكان، وخاصة عقب توقف صرف مرتبات موظفي الحكومة في المحافظات الشمالية منذ نحو عام واستغناء كثير من شركات القطاع الخاص عن أعدادٍ كبيرة من موظفيها، فارتفعت إثر ذلك نسبة البطالة وتراجعت القدرة الشرائية، فلجأ الناس لوسائل كثيرة لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، ومن تلك الوسائل كان اضطرارهم لبيع مدخراتهم من الذهب، وفي العُرف اليمني يمثل بيع المجوهرات آخر قلاع التأمين الذي تعتمد عليه العائلة، ولهذا تتردد العائلة في اللجوء إلى هذه الوسيلة إلا بعد استنفادها كل الوسائل ما يعكس بلوغ المعاناة اليمنية مستوى خطيراً له ما بعده.
يتحدث الصائغان في شارع الدفعي بصنعاء ماجد هجوان وعبدالله عبده عن أن محلاتهم تشتري ذهباً من الناس يومياً أكثر بكثير مما تبيعه، وقدّر عبد الله نسبة ما يبيعاه بواقع 25% مقابل 75% تمثل نسبة الشراء من الناس. ووفق نائب رئيس الجمعية اليمنية لصاغة الذهب يحيى مثنى "تحتفظ كل عائلة يمنية ما بين 50 إلى 200 غرام من الذهب على الأقل كمدخرات".
ميسان عمار، تعمل في وزارة الصحة كتبت على حائطها في فيسبوك متذمرة من الحال التي وصلت إليها أوضاع الناس في بلادها بسبب الحرب، تقول "لقد بعنا كل شيء حتى الدبلة والمحبس (خاتم الزواج). إلى أين ستذهب بلادنا؟ هل يريدون أن يخرج اليمنيون لبيع أولادهم، لقد صار هناك من الناس من يدفعون بأطفالهم، للأسف الشديد، للعمل أو للتسول وأحياناً لجبهات القتال، ومثل هذا أمر طبيعي، لأن الفقر أوصل الناس إلى تجاوز كثير من الاعتبارات في علاقته بعائلته ووطنه بما فيها من يحسبون أنفسهم مسؤولين على البلاد"، في إشارة منها لسلطات أطراف الحرب التي تتجاهل معاناة الناس ومستمرة في استثمار الحرب لصالح تجارة رابحة وقودها القتل اليومي في الجبهات والموت في معترك الحياة العامة التي يزداد فيها الناس فقراً وبؤساً ومرضاً، قبل أن يقضون بصمت.