[ أرشيفية ]
خلقت الحرب في اليمن، خلال ثلاث سنوات، واقعاً إنسانياً كارثياً، يمكن لزائر صنعاء -مثلاً -أن يراه في الشوارع، إذ يكفي أن تقف على أي رصيف لتقرأ عنواناً مخيفاً لأسوأ أزمة مجاعة في العالم تهدد هذا البلد المنكوب بقيادات لا تؤمن بحضارته وحقوق شعبه، مجاعة أصبحت البلاد قريبة من ولوج مرحلتها الخامسة والقاتلة، فيما المتصارعون مازالوا يصروّن على تجاهل توسلات الشوارع وأنين المنازل ونحيب النعوش.
لقد بات الجوع يمشي على قدمين في مناظر باتت مألوفة لمن يبحثون في القمامة عما يسدون به رمق جوعهم، بل باتت للجوع عينان تنظران إليك بعوز من خلال تلك الأعداد المتزايدة من المتسولين الذين يتزاحمون على نافذة سيارتك في مشاهد أكثر إيلاماً يجسّدها أولئك الأطفال من باعة ومتسولين تزايدت أعدادهم على الأرصفة، ونخاف، من خلال واقعهم اليومي المرير، على مستقبل بلادهم، وهم يعيشون كل هذا الحرمان.
الجوع هناك باتت له أياد عاطلة تمضي يومها بحثاً عن وجبتها في ظل بطالة مخيفة نتجتْ عن توقف معظم أشكال الحياة في البلاد مع انقطاع صرف المرتبات الحكومية في الشمال وتسريح أعداد كبيرة من العاملين في القطاع الخاص واستمرار الحرب بأشكالها المختلفة (قصف وفساد واقتصاد وسلطة) لنرى، فيما تبقى من الدولة في هذا البلد المحاصر والمنهك، هو المتهم الأول عن تهيئة اليمن لأكبر مجاعة في العالم تدق الجرس الآن.
لقد باتت البلاد على بُعد خطوة واحدة من المجاعة وفق مقاييس الأمم المتحدة للأمن الغذائي بمراحله الخمس (الحد الأدنى، الإنذار، الأزمة، الطوارئ، المجاعة). وسبق أن أعلنت الأمم المتحدة أن 20 محافظة يمنية أصبحت في مرحلتي الأزمة والطوارئ يعاني فيها 8.4 مليون شخص من فقدان حاد للأمن الغذائي (الجوع)… وعما قريب في حال استمرت الحرب وحصار التحالف وأزمة المرتبات وفساد الحكومتين في عدن وصنعاء سيُعلن دخول اليمن مرحلة المجاعة حيث يسقط الناس في الشوارع صرعى من الجوع.
ووفق تقرير جديد لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) فإن 22،2 مليون يمني (76٪ من السكان) بحاجة إلى المساعدة منهم 11.3 مليون بحاجة شديدة للدعم. كما يعاني 17.8مليون يمني من انعدام الأمن الغذائي، وهم معرضون لخطر داهم (المجاعة)، وهو ما يمثل نسبة زيادة مقلقة تصل إلى 24 في المئة مقابل 6،8 مليون في 2017. وتشمل الأرقام أكثر من نصف محافظات البلاد من بينها 72 منطقة من آصل 95 هي الأكثر تعرضاً لخطر المجاعة. وقدر (أوتشا) أن حوالي 107 مديريات (32 في المئة من أجمالي عدد مديريات اليمن) معرّضة لمخاطر عالية عما قريب.
أزمة صحة
ترزح البلاد جراء الحرب تحت أسوأ أزمة صحة عامة شهدها بلد في العالم، إذ توقفت نصف المرافق الصحية عن العمل مع تفشي مخيف لوباء الدفتيريا (الخُناق) قبل خطوة واحدة من المجاعة القاتلة بالتزامن مع استمرار معاناة البلد من أكبر تفش لوباء الكوليرا في العالم، فقد تخطى المشتبه بإصابتهم مليون شخص فيما تجاوز عدد الوفيات الفي حالة منذ أبريل/ نيسان 2017.
علاوة على ما تسبب به حصار التحالف وإغلاقه لمطار صنعاء وبعض الموانئ من مضاعفة لمعاناة الناس وارتفاع أسعار المواد الغذائية ووفاة عديد من الحالات جراء تعذر الحصول على الرعاية الصحية سواء في الداخل أو الخارج وغيرها من الآثار المأساوية، فإن الصورة الحقيقية في الواقع تبقى أقسى وأكثر ايلاماً. فهناك 16.4 مليون يمني بحاجة إلى المساعدات الإنسانية وحوالي 9.3 مليون شخص في حاجة ماسة للمساعدة الصحية.
وتقول الأمم المتحدة إن حوالي 16مليون يمني بحاجة لمساعدات إنسانية للوصول إلى المياه الآمنة والخدمات الأساسية للصرف الصحي والنظافة الشخصية منهم 11.6 مليون شخص في حاجة ماسة.
كما يعاني 1.8 مليون طفل و1.1مليون حامل أو مرضعة من سوء التغذية الحاد منهم 400 ألف طفل دون سن الخامسة من العمر يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم.
الموت الصامت
يشهد اليمن وفيات كثيرة يومياً وبخاصة مدن الشمال من أمراض يمكن الوقاية منها بما فيها سوء التغذية وغيرها من الأمراض والأوبئة وبخاصة وباء الكوليرا الذي ضرب البلد نتيجة تدهور الحالة المعيشية ولجوء الناس لمصادر أكل وشرب غير آمنه مع تدهور حاد في الخدمة الصحية، فشهد اليمن تفشياً واسعاً للوباء وبخاصة في موجته الثانية، حيث كان الوباء قد ضرب البلد في موجة أولى خلال تشرين الأول/ اكتوبر2016- مارس/آذار 2017،
وحينها تمت محاصرته ليعود خلال موسم الأمطار في موجة ثانية منذ27 نيسان/أبريل، وإن تراجعت مؤشرات الإصابة مؤخراً بالتزامن مع ظهور وباء جديد وفتاك منذ منتصف آب/أغسطس 2017، وهو وباء الدفتيريا (الخناق) الذي تسبب، حتى الآن، في إصابة أكثر من أربعمـئة حالة ووفاة أكثر من أربعين، ومازال يهدد الآلاف.
وتشمل أزمة الصحة التي تعيشها البلاد معاناة الناس من تراجع القدرة على شراء الدواء والحصول على الخدمة العاجلة، وبخاصة مرضى الأمراض المزمنة الذين يعانون واقعاً مأساوياً في ظل الفقر والعوز ومحدودية الخدمة الصحية، وهو ما يمكن قراءته فيما يعانيه مرضى الفشل الكلوي والسرطان والتليف الكبدي وزارعو الكبد والكلى وغيرها من الأمراض التي يتسلمهم الموت مبكراً لأسباب ناتجة عن العجز في الحصول على الدواء أو الرعاية أو عدم القدرة على السفر لأسباب متعلقة بالحصار أو عجز ذات اليد.
أزمة حماية
ومع تزايد النزوح يعاني اليمن من أكبر أزمات الحماية في العالم حيث يحتاج حوالي 12.9مليون شخص لمساعدات إنسانية لحماية سلامتهم أو كرامتهم أو حقوقهم الأساسية من الانتهاكات المختلفة. كما تسببت الحرب في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 41.8 في المئة في الفترة من 2015 وحتى 2017، أي ما يعادل ـ وفق الأمم المتحدة ـ خسارة قدرها 32.5 مليار دولار أمريكي بما يعادل 1،180 دولار أمريكي للفرد الواحد.
الأطفال
ماذا يعني إعلان منظمة «يونيسيف» إن ثلاثة ملايين طفل ولدوا في اليمن خلال الحرب المستعرة منذ نحو ثلاث سنوات؟ يعني ذلك أن معظم أولئك الأطفال هم لأمهات يعانين، في الغالب، من سوء التغذية وآباء فقدوا، في معظمهم، مصادر دخولهم، ما معناه، أيضاً، أن جيلاً كاملاً، هناك، يعيش العنف والحرمان، وسيشكل تهديداً جديداً لمستقبل السلام في بلاده ما لم يتم اتخاذ إجراءات كفيلة بتوفير الحماية الإنسانية لـ 76 بالمئة من السكان أصبحوا بحلول 2018بحاجة للمساعدات.
منسق الشؤون الإنسانية في اليمن «جيمي ماكغولدريك» قال في أخر مؤتمر صحافي له في صنعاء قبل انتهاء مهمته هناك قبيل أيام «إن جيلاً كاملاً من الأطفال ينشأ في ظل المعاناة والحرمان، حيث هناك ما يقرب من مليوني طفل خارج المدارس، منهم 1.8 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد منهم اربعمئة ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد والوخيم، وهم أكثر عرضة بعشرة أضعاف لخطر الموت مقارنة بأقرانهم إذا لم يتلقوا العلاج الطبي اللازم بالإضافة إلى مليون امرأة حامل تعاني من سوء التغذية».
بعد ألف يوم من الحرب الوحشية في هذا البلد الضعيف والفقير لم تعد هناك دولة واضحة المعالم، الاقتصاد شبه منهار، معظم الخدمات العامة تكاد تكون مختفية، ومعظم اليمنيين فقدوا سبل معيشتهم واستنفدوا مدخرات إنقاذهم ووسائل تكيفهم. لقد كان المدنيون ضمن أهداف الحرب منذ البداية، وبالتالي فقد نقلت الحرب هذا البلد إلى حافة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والمؤسسي.
لم تكن معاناة الشعب هناك ضمن اهتمامات الأطراف المتحاربة بقدر ما تمثل مضاعفة هذه المعاناة أداة من أدوات الحرب حتى الآن، وهو ما تقوله – للأسف – المواجهات المستعرة هناك، وذلك منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء أواخر 2014، وحتى سيطرة الانفصاليين على عدن أواخر كانون الثاني/يناير2018، وبينهما العمليات العسكرية التي يشنها تحالف عربي بقيادة السعودية منذ آذار/ مارس 2015 بهدف دعم شرعية الرئيس هادي وإعادته إلى صنعاء، وهي الحرب نفسها التي انتقل بها التحالف إلى فصل جديد في عدن، لكنها كانت، هذه المرة، ضد شرعية الرئيس هادي من خلال دعم التحالف غير المعلن للانفصاليين في مواجهة القوات الموالية للرئيس الذي يستمد منه التحالف شرعية تدخله في هذه الحرب الظالمة.
أكبر مأساة إنسانية
هذه الحرب بمعاركها ومفارقاتها لم تنجح بعد ثلاث سنوات سوى في تدمير معظم مقدرات البنى التحتية وخلق «أكبر مأساة إنسانية في العالم» وتمزيق النسيج الاجتماعي، وبالتالي فتح كوة ستظل تلتهم حيوات اليمنيين مرضاً وجوعاً وعوزاً وقتلاً، وهي مأساة قالت عنها الأمم المتحدة «إنها ستستمر» حتى يلتفت العالم بمسؤولية لكارثيتها وينحاز بحزم للسلام ضد الحرب ولحقوق الشعب ضد مصالح الصراع الإقليمي ببيادقه المحلية.