يُقال إن للمشتغل في مجال السلطة الرابعة حاسةً سادسة تجعله يتوقع ما لا يراه غيره. ألهذا كان خاشُقجي متشككًا في أنه لن يخرج من بوابة القنصلية السعودية في إسطنبول التي دخلها في الثاني من الشهر الجاري، ولهذا اصطحب خطيبته التركية معه وتركها خارج القنصلية كي تكون شاهدة على عدم عودته من “الثقب الأسود” الذي دخله؟! تقول الأنباء التي أوردتها وكالة “رويترز” نقلاً عن الاستنتاجات الأولية للشرطة التركية، إن خاشقجي الذي كان سيبلغ الستين من عمره يوم الثالث عشر من هذا الشهر، قتل في القنصلية السعودية في إسطنبول قبل نقل جثته إلى خارجها، ليظهر أنه دفع ثمن مواقفه التي لم تحتملها السلطات السعودية، وثمن فشل محاولات إقناعه بالعودة إلى الرياض.
كما أن تصفيته بهذه الطريقة هي، بحسب منظمة العفو الدولية، “إشارة مروعة للمعارضين السلميين والمنتقدين بأنهم عرضة للخطر حتى خارج البلاد، وأن السلطات تستهدفهم واحدًا تلو الآخر في أي مكان يمكنها فيه الوصول إليهم”.
كل هذا على الرغم من أن خاشقجي كان يصرّ على نحو دائم بأنه ليس معارضًا وإن كان يوجّه رسائل نقد لسلطة ولي العهد المنفلت، وهو عندما دخل قنصلية بلاده في إسطنبول لم يكن يعتقد أنه سيتعرض لمكروه، لكنه دخل ولم يخرج.
من يأمن محمّد بن سلمان؟!
ولد جمال خاشُقجي في المدينة المنوّرة بالسعودية عام 1958، وكانت دراسته العليا في انديانا الأمريكية، واختار الصحافة، ثم عاد للعمل فيها مراسلاً في أكثر من منطقة. شغله في أفغانستان جعله في مساحة قريبة من الجماعات الإسلامية، وقد أخذت عليه هذه النقطة على الدوام.
في أواخر التسعينيات صار نائبًا لرئيس تحرير جريدة “آراب نيوز”، وفي عام 2003 اختير ليكون رئيسًا لجريدة “الوطن”. لكن رحلته في “الوطن” كانت قصيرة. رئيس تحرير لأقل من شهرين، لقد ضاقوا به ومن سياسته في الجريدة.
ولي العهد السعودي وقتها، عبد الله بن عبد العزيز، الذي سيصبح ملكًا بعد عامين، كان شغوفًا بالثقافة والتراث، وكان قد أمر في سنوات سابقة بتأسيس مهرجان الجنادرية الثقافي الذي لا يزال قائمًا على نحو سنوي إلى اليوم. لقد رأى ولي العهد، وقتها، في شخصية جمال خاشقجي ذلك الصحافي الذي سيفعل خطوة كبيرة في جريدة “الوطن” ووضعها في إطار الصورة الإصلاحية التي كان يرغب في وضعها على الأرض.
لقد كانت مغامرة ولم يكن ولي العهد يحسب لها حسابًا. مُغامرة لم تحتمل شهرين من الزمن حتى صدر قرار إقالة خاشقجي من رئاسة تحرير الجريدة التي رأى فيها ولي العهد أن تكون إصلاحية، لكن جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقفت للتجربة الوليدة بالمرصاد.
ولم يكن من الصعب اكتشاف أن السبب الأكبر في احتجاج هذه الجماعة على سياسة الخاشُقجي في إدارة الجريدة بأنه قام بإعادة استكتاب غالبية الأسماء التي كانت ممنوعة أو غير المرغوبة من الكتابة في الصحافة السعودية. ليس هذا فحسب، فقد أتى بكُتّاب من مختلف البلاد العربية، من اليمن على وجه الخصوص، وبعضهم عاش فترة في المملكة ولم يقدر احتمال البقاء فيها وعاد إلى اليمن، ويمكن اعتبار هؤلاء من أصحاب المنظور الحداثي المنفتح على مختلف الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية، على عكس طبيعة أرض المملكة. لا يمكن أن تقبل “جماعة المعروف” بهذا الأمر.
لم يُثر خاشُقجي ضجّة حول قرار إقالته، وتقبل الأمر برحابة صدر على الرغم من المشوار الطويل والوقت الكثير الذي فعله كي تُعاود تلك الجريدة خروجها إلى النور على النحو الذي تمنّاه. كان يتقبل المسألة على نحو مواز، بشكل ما، بما كان يفعله زميله داود الشريان الذي كان يُرحب على طول الخط بكل القرارات التي كانت تنقله من جهة إلى أُخرى وتمنعه من الكتابة، خصوصًا في عام 2002 حين كتب مقالاً ينتقد فيه جبروت هيئة المعروف حيال حريق صار في مدرسة للبنات ومُنع رجال الإطفاء من الدخول إلى المبنى “خشية على كشف عورات البنات”.
فحصل أن حُجب عمود “أضعف الإيمان” من جريدة “الحياة” السعودية للشريان. سيحصل الأمر ذاته، لكن بعد سنوات، مع الخاشُقجي نفسه حين سيُحذف عموده اليومي بسبب انتقاده سياسة محمّد بن سلمان، وقالت الجريدة إن المنع قد تم بسبب “تجاوزه ضد السعودية”.
جاء قرار المنفى الاختياري بعد أن شهد خاشُقجي عمليات الاعتقالات التي تمّت لرفاقه وبعض من الزملاء المقربين. وهو ما أعلنه لاحقًا في عموده الصحافي الذي صار ثابتًا في جريدة “واشنطن بوست” الأمريكية.
لكن قبل ذلك، اشتغل صاحب كتاب “احتلال السوق السعودي” مستشارًا إعلاميًا لتركي الفيصل الذي كان سفيرًا للسعودية في لندن ومن بعدها في واشنطن، ليعود بعدها لرئاسة جريدة “الوطن” في عام 2007 ليتم إبعاده منها مجددًا بعد سنوات أربع.
بعد ذلك، خاض الخاشقجي تجربة لم يكتب لها النجاح، تمثلت في تأسيس قناة “العرب” الإخبارية، المملوكة لرجل المال والأعمال السعودي الأمير الوليد بن طلال، والتي كان مقررا لها البث من المنامة، وذلك بعد تلقي الخاشقجي ضمانات من السلطات البحرينية باستقلالية سياسة القناة. لكن السلطات هناك أغلقت القناة بعد أقل من 24 ساعة على انطلاقتها، وذلك بذريعة استضافتها لمعارض بحريني.
لقد ارتبط كاتب “ربيع العرب زمن الإخوان المسلمين” كثيرًا بالبلاط الملكي، ولم يكن يُنكر ذلك، كأن ذلك الاعتراف يريد عبره تمرير الأشياء الإصلاحية التي ظن، أخيرًا، أن ولي العهد يريد تطبيقها على نحو فعلي وليس عبارة عن شعارات. لا يُنسى موقف جمال خاشُقجي مع “عاصفة الحزم” أو الحرب السعودية التي أعلنها محمّد بن سلمان على اليمن. لقد كان هذا الصحافي الإصلاحي من أشدّ أنصارها لغاية اكتشافه، بعد عامين من انطلاقها، بالعبثية التي تحملها. من هنا بدأت حالة الطلاق بينه وبين ولي العهد إلى الدرجة التي قرّر فيها جمال اتخاذ قرار الرحيل عن قصور المملكة. لم تكن نقطة حرب اليمن وحدها، بل كانت هناك أمور كثيرة لعلّ أبرزها رؤيته بأن “رؤية” ولي العهد محمّد بن سلمان في قيادة المملكة العربية السعودية لم تكن على تلك الصورة التي نظر إليها معه في الوقت نفسه. أو أنه اكتشف لاحقًا بأنه سيكون مجرد كومبارس “إصلاحي” ولا مكان لرأيه.
وإلى كل ذلك:
لقد جاء قرار المنفى الاختياري بعد أن شهد خاشُقجي عمليات الاعتقالات التي تمّت لرفاقه وبعض من الزملاء المقربين. وهو ما أعلنه لاحقًا في عموده الصحافي الذي صار ثابتًا في جريدة “واشنطن بوست” الأمريكية. ومن بعدها كتب مقالاً أعلن فيه بأن السياسي لا يدرك مدى الضرر الذي يقع على الكاتب، أو “إمام المسجد، والصحافي، والمثقف، والاقتصادي، عندما يلقي به في السجن دون سبب، لمجرد تخويف بقية الشعب، بل حتى في سجن انفرادي لشهرين أو ثلاثة. سيكون ذلك كابوسًا يلاحقه حتى لو لم يتعرض لتعذيب قاس عندما يخرج من السجن”.
ومن المحزن أن يكون هذا المقال من أواخر الكتابات التي أنجزها جمال خاشُقجي وكأنه كان يرى مصيره بعين الصحافي الثاقبة وحاسته السادسة. لكن هذه المرّة لم يُسجن جمال كثيرًا، لقد تمّت تصفيته على نحو سريع. ولا تزال خديجة، خطيبته، تنتظر خروجه من باب القنصلية.