[ الصحفي محمد الأهدل أحد ضحايا الهجرة الغير الشرعية إلى أوروبا ]
قرر الشاب محمد الأهدل (24 عاما)، وهو صحفي رياضي يمني ينتمي إلى محافظة الحديدة، أن يسلك دربًا جديدًا للحلم، واختار الهجرة غير الشرعية للوصول إلى أوروبا، من أجل أن يحظى بحياة أفضل تمكنه من إنجاز أحلامه التي عجز عن تحقيقها في اليمن، بعد أن أُغلقت في وجهه كافة الأبواب، ونفدت كل الخيارات أمامه، فقرر الانتصار لنفسه وأحلامه بالهجرة، لكن انتهى به المطاف جثة هامدة في شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
انهيار الواقع
مثلت الأحداث التي عايشها محمد في بلده، إضافة إلى تلك التي رافقت اغترابه في السعودية (الدولة التي لا ترأف بالوافدين ولو كانوا من الضحايا الأبرياء للحرب التي تشنها على بلدهم، كما هو الحال مع اليمنيين)، مثلت كل هذه الأحداث منعرجًا في حياة محمد، ودفعته إلى التفكير في الرحيل سالكًا أخطر الطرق إلى أوروبا ( الهجرة عن طريق البحر)، مع إدراكه المسبق لاحتمال الغرق والموت، لكنه في المقابل لا يجد معنى للبقاء، ولا يرى المكوث في اليمن إلا وجهًا آخر للموت، كما أن فرصة العمل التي حظي بها مؤخرًا في السعودية لم تكن تغريه في ظل المواقف المُهينة التي يُعامل بها اليمنيون هناك.
يتذكر عبد الرحمن الأهدل شقيقه بأسى وهو يسرد قصته، حيث يقول: "لقد عمل محمد في الصحافة خلال الفترة الماضية، ومع اندلاع الحرب في اليمن، ضاقت سُبل العيش أمامه فرفض البقاء، وقرر مغادرة بلده إلى السعودية لينال فرصة أفضل، لكنه لم يحظ بها بسبب القوانين المُجحفة التي اتخذتها السلطات ضد المغتربين، اضطر محمد للعمل في السعودية من أجل تحصيل المبلغ الكافي للرحلة إلى أوروبا، وأصبح المال هاجسه الوحيد هناك، عليه أن يوفر المبلغ الكافي ومن ثم يغادر هذا البلد المشؤوم سريعًا".
البحث عن وطن
في الثامن من فبراير، وفي ليلة باردة مثقلة بالقلق والترقب، امتطى الصحفي الرياضي محمد الأهدل مع عدد من المهاجرين العرب قاربًا صغيرًا في الساحل الشمالي لمدينة وهران الجزائرية، وخلال لحظات انطلق بهم القارب ماخرًا عِباب البحر الأبيض المتوسط، وقد كانوا قاصدين إسبانيا، لكن بعد ساعتين فقط من انطلاق الرحلة انعطب القارب الذي كان يُقلهم، وفي ظرف قصير لا يتجاوز خمس ثوان غرق المركب في البحر، وأثناء ذلك انخرط الجميع في نوبة ذعر. إنها اللحظات الأكثر حرجًا في الرحلة، مشهدًا يقف في المنتصف ما بين الموت والحياة. أخذ الجميع يصرخون باستثناء محمد الذي ظل يرقب الوضع بهدوء متكئًا على برميل المازوت في أحد زوايا القارب، وقد أدرك بثقة ويقين أنها النهاية لقصة لم تكتمل.
ينقل الصحفي بشير سنان -وهو زميل لـ"محمد"- هذه الرواية عن أحد رفاق محمد الناجين من الغرق، قائلاً: "اختار محمد أن يواجه الموت ببسالة وشجاعة، وقد كان يدرك مسبقًا أن هذه النهاية هي أحد الاحتمالات الواردة لرحلته، حين عمد إلى التخلي عن عمله في المملكة العربية السعودية قبل أربعة أشهر من الآن، وقرر الهجرة صوب إسبانيا".
النضال الأخير
غادر محمد السعودية عابرًا عدة دول إفريقية شملت موريتانيا ومالي وصولاً إلى الجزائر، وتنقل بينها بطريقة غير شرعية مجازفًا بنفسه في سبيل حياة أفضل كان يتوق إليها في أوروبا، وقد تعرض للاحتجاز على يد السلطات الجزائرية ثم أُفرج عنه، إضافة إلى تعرضه هو ورفاقه لعملية نصب من قبل أحد المهربين في المحاولة الأولى للعبور، لكنهم أعاودا الكرة مرة أخرى مدفوعين بحلم أبيض بالحصول على حياة حافلة، لكن البحر كان كامنًا لهم هذه المرة، ليلتهم منهم ثلاثة، وهم محمد إضافة إلى شخصين آخرين من فلسطين، بينما تمكنت قوات خفر السواحل في مدينة وهران من إنقاذ 12 مهاجرًا من جنسيات عربية مختلفة كانوا في نفس الرحلة.
فقدان تراجيدي
لم تتوقف مأساة أسرة محمد وأصدقائه عند الغرق فحسب، فقد ظلت جثته مفقودة في البحر مدة عشرين يومًا بعد غرقه، إلى أن عُثر عليها يوم الخميس الماضي (28 فبراير) بساحل ولاية شلف الجزائرية من قبل حراس الشواطئ، بعد متابعة حثيثة وتواصل قامت به الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي الذي كان محمد أحد مؤسسيها، مع السفارة اليمنية التي قامت بدورها في متابعة السلطات الجزائرية إلى أن عثروا على جثة الصحفي محمد في شواطئ ولاية شلف، وقد سُجلت الوفاة في مستشفى "تنس" بالولاية، وحُفظت الجثة هناك، وتم فتح تحقيق من قبل الأمن الجزائري بشأن الحادثة.
وقد تكفّلت الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بنقل الجثة من الجزائر إلى القاهرة، بينما تكفلت شركة "طيران اليمنية" بنقلها من القاهرة إلى عدن، بحسب إفادة رئيس الجمعية، بشير سنان، ومن المتوقع أن تصل جثة الأهدل إلى عدن خلال أسبوع من الآن.
وقد باتت الهجرة إلى أوروبا حلما يراود الكثير من الشباب اليمنيين المحبطين بفعل الصراع الذي أدى إلى انهيار بلد بأكمله، وتداعي مقومات الحياة فيه على وقع الاقتتال والحرب، حيث تضيق خيارات البقاء مع تقادم الحرب وإيغالها في العبث، فتتضاءل الفرص تباعًا أمام هؤلاء الشباب الذين يجدون أنفسهم مُعتقلون في واقع بلا ملامح، يتساوى فيه الموت والحياة.