[ القاصة نجلاء العمري ]
توطئة
لقد تعددت تعريفات الرؤية في المرجعيات النقدية، وتداخلت مع مصطلح الرؤيا؛ إذ يذهب بعض النقاد إلى تفسير (الرؤيا) بالرؤيا المنامية، و(الرؤية) بـ الرؤية البصرية والرؤية القلبية استنادًا إلى الدلالات المعجمية في العربية، ويذهب آخرون إلى اعتبار الرؤيا مصطلحاً ينسحب على الرؤيا الفكرية، ويقابل في الإنجليزية (vision) ونحن نتبنى مصطلح (الرؤية) الذي يستوعب رؤية البصر والبصيرة للتعبير عن الرؤية الفكرية بمعناه " الأكثر تداولا في النقد المعاصر وهو الذي قدمه التعبيريون لمفهوم الرؤية فالرؤية لدى مؤلف ما " هي أفكاره ومواقفه وأحاسيسه واعتباراته لله والطبيعة والإنسان." إنها " تصور معين لدى الشاعر للواقع والأشياء والكون وموقفه أو فلسفته، يعبر عنها بطرائق وأساليب مختلفة ، هي وسيلة الشاعر لإبداع عالم جديد .."
وهي تقابل في بعض مؤلفات سيد قطب مفهوم (التصور) الذي بنى عليه كتابيه: (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ) و(مقومات التصور الإسلامي).
وحينما نقول" إشراق الرؤية" فإننا لا نعني (الإشراق) كما اصطلح عليه في المرجعيات الصوفية، وإنما نعني به الصفاء الروحي والفكري، والنزوع نحو المعاني العليا التي يجسدها التصور الإيماني لله والإنسان والحياة.
إشراق الرؤية:
حينما تقرأ المجموعة القصصية (قلبك يا صديقي) للقاصة نجلاء العمري تتلألأ بين جوانحك المعاني، ويأسرك النور الباذخ وأنت تعرج في سماء الروح، وملكوت القلب على مدارج البيان، ومراقي السرد بآفاقه المفعمة بالإشراق، وحينما تعانق القراءة عالمها القصصي تجد أن القصص لا تسلم نفسها للقارئ لأول مرة، بل تظل تمنحه في كل قراءة معنى جديداً يختبئ خلف اللغة المضفورة بإحكام وتركيز وفنية مدهشة.
لكن القراءة الكلية التكاملية للمجموعة تجعلنا ندرك أن هناك خيطاً ينتظم الرؤية التي تشكل عالم القصة وتتحكم في توجيه الأنساق المختلفة فيها، وهذه الرؤية من وجهة نظرنا هي الإشراق الذي يعد البذرة الجوهرية التي اختمرت فيها كل قصص المجموعة على اختلاف مضامينها، ويسعى هذا البحث إلى جلاء تلك الرؤية في تواشجاتها مع عناصر البناء السردي.
وإذا تعقبنا تجليات الإشراق في قصص المجموعة نجد أن أول قصة " أحلام باهظة جدًا " تكشف عن ذلك حيث يلجأ الراوي إلى أحلام اليقظة شأنه شأن كل العاطلين على أرصفة الوطن فيحلم بالحصول على مليون دولار !! في مسابقة ما ، ويظل يجول في تفاصيل هذا الحلم بيد أنه يخاطب نفسه عبر تقنية المونولوج الداخلي بقوله " هيا قم يا عزيزي ، وانظر إلى الأمام ، فالسعادة تكمن في قلبك لا في شيء آخر ........"
وتستمر بنية الإشراق في التسلل في أنساق وأنساغ السرد في قصة " الثلاثة " حيث يأتي السرد على لسان الراوي المتمثل بضمير المتكلم أيضاً " عندما صافحتُه لأول مرة لم أكن أعتقد أني سألتقيه مرة أخرى، كان هادئا وحزينًا، غير أن حزنه لا يشدك إليه ، كان يبدو لي منطفئ القلب؛ لذا لم توحِ لي سحنتُه بأن ثمةَ لقاءً ما قد يكون بيننا. "
إن القاصة تسعى إلى بث الروح في أعماق الشخصيات القصصية، إذ تقرر الشخصية الرئيسة في القصة وهي شخصية الراوي أن لا لقاء مع صديق أضحى منطفئ القلب ميّت الإحساس :" هل من المعقول أن تكون ذلك الشخص الظل ؟ إنه قاتم ومنظفي ... كان قلبه يضخ بصورة منتظمة .. كان يبدو آلياً بعض الشيء وبدا لي أني لا أفهمه .."
هناك تباين في الرؤى، وهناك مفاصلة في المواقف؛ لأن الخيط الذي يمكن أن يكون صلة بينهما مقطوع .
ونجد هذه البنية في قصة " إلى أخي مع غصة عظيمة .. رسالة كتبت ذات غربة ." ... هكذا أردفت .. وقلت أيضاً : الشمس تعطيهم أشعة تنبثق من عيونهم وقلوبهم وأرواحهم المحبة . هنا كل شيء بارد حتى الكفوف التي تصافح، كأنها قبضة حجر جامدة. "
ولأن رؤية الإشراق مهيمنة في المجموعة فإن شخصية الراوي المتكلم بتاء التأنيث في قصة " تفاصيل الحرب والسلام " تميل إلى السلم وتحرص على بقاء الحياة وسيادة الأمن " كان ذلك عندما أنجبتُ طفلتي الأولى كانت تشعر بقربي بوهن ، تتلمس وجهي وتبتسم للفضاء ببراءة، وكنت أنظر إليها وأجبن."
وتتمظهر رؤية الإشراق في الرؤية النبيلة للحياة بمظهر آخر يتجسد في الشغف المتوهج بالطفولة وعالمها البريء تنتصر لها من كل ما يحيق بها من مخاطر، أو يكتنفها من معاناة، ونجد أن القاصة تسكب حنانها الأنثوي، وإشراقها الروحي في نصوص المجموعة حادبة على الطفولة منتصرة لقضاياها، تقول على لسان الراوي المتكلم: كانت الجراء تعوي أيضاً إنها يتيمة، لو كانت لها أم لحمتها من أيدي أولئك الصبية .. ستعوي في وجوههم فيركضون كالفراخ المذعورة. "
فالرؤية الرحيمة لا تقف برحمتها عند المستوى الإنساني بل تمتد إلى عالم الحيوان، وتتألم على الكلاب الصغيرة التي لا أمَّ لها، تقول:" .....وفي ذلك المساء عدت إلى منزلي مجروحة القلب ... الأيتام يملؤون قلبي وجعًا، نظراتهم المنكسرة تهزني، تجعلني أتكور على نفسي، تسحبني دركات معتمة. " " ....كم أنتم صغار! ، وكم أنتم متعبون ! لماذا لا تبكون في وجوه الناس ؟! من علمكم الصمت أيها الصغار ؟ من جمّر هذه العيون وأفرغها إلا من أحزانها ؟
وتنعى على أولئك القساة نظرتهم للأيتام من البشر نظرة ازدراء، وتقول لأحد المتأففين من طفل صغير متسول: " اكسر مرآتك، وانظر إلى نظافة وجهك في أولئك المشردين ... هناك ستحصل على قلبك متسخاً حافياً .. هم قلوبنا أؤلئك الصغار الحزينون .." حيث قلبت السحر على الساحر، والسخرية على الساخر فالمتأفف المنتقص للصغار صار متأففاً منه، ومنتقصاً من قدره؛ لأنه متسخ بالمشاعر السلبية، وحاف من قيم النبل والصفاء والرحمة .
وتقول في نهاية القصة: " .. حينما رأوني وأنا أبكي ولأول مرة يبكون ويبكون كانوا يطهرون العالم بدموعهم، بينما هو يوسخهم كل يوم، وكانوا يبكون كأقمار صغيرة، وينزفون دمعة ضوء حزينة."
إن هذا الفضاء السردي المفعم بمشاعر الرحمة والإشفاق على الطفولة وهذه النظرة الإنسانية لأحزانها ينم عن إشراق روحي يتملك عالم الرؤية لدى القاصة ، فيفيض سلسبيلاً من نور متوهج .
وتتجلى الرؤية الإشراقية في مظهر آخر يتمثل في التوق إلى الحرية فالإشراق الروحي تحطيمٌ للأطواق، وكسرٌ للأغلال، ولا يمكن للمتبلدين روحيًا أن يفكروا في البحث عن الحرية، ولعل البحث عن الحرية من أبجديات هذا الإشراق، فالإحساس العارم بالوجود هو الخطوة الأولى لحرية الذات، ولا يتأتى إلا لنفس مشرقة، تقول في قصة " هواجس ":" القصة لا تبدأ من حجرتي، إنها تحترق في قفصي الصدري ، تشتعل في قلبي ناراً، تنتفض مع أنفاسي؛ لتعلن أني موجودة. "
ولا غرابة أن يكون إعلان الكينونة إعلانًا صارخاً بالإحساس بالذات فهو المقدمة لكل ثورة على صعيد الداخل النفسي والخارج الموضوعي، إنه سؤال الكينونة الذي يعتري الممسوسين بالإحساس بالآدمية، وكبرياء الحياة، وسموق الروح التي هي مناط التكريم والتكليف الإلهي .
وفي قصة (هواجس) تقول: " كنت لا أزال أبحث عن وجهي بينهم " .
وتقتنص القصة لقطة دالة من قصة سيدنا يوسف- عليه السلام- الذي قذفت به أمواج الحسد في غيابة الجب ، تقول: " يحشرون روحي حيةً في هوة القبر السحيق، أو في قعر الجب لم أبك أو أتوسل .. انتظرت السيارة بذهول، وما من رشأ أتعلق بأطرافه، أو فتية يبيعونني بثمن بخس، ذرفت دمعة اتسخت بأطراف أصابعهم .. وغبت ككل من غابوا في هول الخواء .."
ولا شك في أن هذه الرؤية التحررية التجاوزية تجعل الشخصية تنظر إلى الحياة من زوايا عديدة، ولا تتشرنق في زاوية واحدة تنظر للعالم منها فحسب، تقول في قصة(ألوان) التي يشير عنوانها إلى التعدد: " تعلمت كيف أزوغ، منهم وألوذ بنفسي وقلبي نظيفين، أنظر إلى الحياة بالألوان، بينما هم لا يعرفون سوى الأبيض والأسود بل الأسود والـ...أسود للأسف."
ونظرًا لهيمنة الرؤية الإشراقية على عالم نجد قصة (أحلام باهضة جدًا) تقدم رؤية قويمة لمفهوم السعادة في أزمنة طغت عليها النزعة المادية، تقول الشخصية:" هيا قم يا عزيزي، وانظر إلى الأمام؛ فالسعادة تكمن في قلبك، لا في شيء آخر .احترمت نفسي وأنا أتكلم بتلك اللباقة والثقافة..."
كما أنَّ إشراق الرؤية قد انعكس على موقف الراوية من عاملة النظافة في قصة (بكاء العدم) "قامت تستعيد المكنسة التي طارت بعيدًا عنها، وعادت تنظف الشارع بحماسة أكثر من السابق، اقتربت منها أكثر ...ابتسمت وحييتها، عند ذلك نظرتْ إليَّ للحظات، وغارت عيناها اللتان بدتا أكثر وضوحًا بالدموع، وانفجرت في بكاء العدم الطويل." والقصة بذلك تقدم الأنموذج الإيماني اللائق في التعامل مع المهمشين (الأخدام) الذين يتعرضون لازدراء المجتمع في اليمن بوصفهم طبقة هامشية، وهذا الاحتفاء بعاملة النظافة وإعادة الاعتبار لها إزاء ما تتعرض له من إهانات يعد تجسيدًا لصفاء الرؤية المؤمنة التي تقدمها هذه المجموعة القصصية.
وفي قصة " هل كانت البطلة شريفة؟؟" تقول " اكتبْ الخاتمة يا عزيزي .. أما أنا فقد انتهيت من كتابتها، وعادت البطلة تبحث عن صياغة جديدة للشرف، وأرض صالحة لاستقبال بذور التغيير على قاعدة الإنسانية واحترام عقلية الآخر. "
إن القاصة تحمل الشخصية القصصية رؤية ثاقبة للأنا في ضوء القيم الإسلامية الإنسانية العليا التي لا تجعل المرأة جزءًا من أثاث المنزل، أو كائناً معطل الإرادة، موهون القوى.. كلا إن بطلة البطلة اختارت طريقها بحسم وهو طريق الحرية الفاعلة القادرة على استيعاب واستقبال بذور التغيير والتطوير، ويا لها من نهاية تكاد تمثل لافتة الحرية بمعاييرها وقيمها النبيلة التي ينبغي أن تتشوف لها كل نساء عالمنا المثقل برواسب التقليد والصمت .
تعالق الرؤية الإشراقية مع العناصر السردية
إذا كانت الرؤية الإشراقية قد عكست نفسها على البنية المضمونية للمجموعة فإنها كذلك تجلت في عناصر البناء السردي، وصبغت تشكلاتها على مستويات مختلفة منها :
العتبات النصية :
العنوان: وإذا قاربنا العنوان: " قلبك يا صديق " نجد أنه يمثل العتبة الأولى والمسبار الأول الذي يساعدنا في الكشف عن خيوط الضوء المنبثق في زوايا الرؤية السردية إن العنوان عتبة النص، ولذلك فقد أخذ النقد الحديث يستقصي الدلالات الممكنة التي يتضمنها العنوان لا بوصفه شيئاً معزولاً عن النص، بل بوصفه نصاً موازياً، يعد الولوج في تفسيره وتحليله أمراً مهماً في دراسة النص الشعري، فـ" العنوان ضرورة كتابية ، وهو بديل من سياق الموقف بين طرفي الاتصال وهذا يعني أن العنوان بإنتاجيته الدلالية .. يؤسس سياقاً دلالياً يهيئ المستقبل لتلقي العمل. " و" ليس العنوان حلية تزيينية يرصع بها أعلى النص، بل هو أفق من التعبير واكتناه الدلالة، وتساوق تكويني مع النص ومنجزه القيمي والجمالي. ومنذ أن وضع العنوان في منصة التداول أمست مهمة تفحصه قرائياً أمراً متلازماً مع دراسة نصه، لتتراكم فيه ممارسة إبداعية متواترة خرجت به إلى مستويات من الابتكار والتوهج التعبيري المثير، الذي أعلن أحقيته في التناول والتحليل وتفكيك كينونته لا بوصفه جزءاً تابعاً للنص بل نصٌ مواز له آليات إنتاجه وفروض اختياره ومنافذ اشتغاله ووظائفه( ) ويبدو أن العنونة صارت جزءاً يستجيب للرؤية الفكرية والجمالية التي ينطلق المبدع منها في مواقفه وإبداعه. ومن هنا تماثلت النصوص مع عنواناتها ومع منطلقات الرؤية، " ويعد العنوان عنصراً من عناصر النصوص الملحقة، وعتبة مهمة لسبر أغوار النص .....وقد اعتبرت السيميائيات العنوان مفتاحاً يتسلح به المحلل لولوج عوالم النص قصد استنطاقها وتأويلها ، وبه نجسُّ نبض النص ونفكك بنياته الدلالية والرمزية "
وإذا تأملنا العنوان في هذه المجموعة القصصية، وحاولنا الاقتراب من دلالاته، فإنه ينبغي لنا أن ننطلق منه إلى النص ومن النص إليه؛ فهو جزء من جملة بنائية ختمت قصة من قصص المجموعة حملت العنوان نفسه " قلبك يا صديقي" وقد استهلت القصة بقول الشخصية" أيها الصديق الفارع الروح كنخلة رائعة الانعتاق...أراك كلما وثبتَ نحو السماء تلألأت نورًا كقطعة سحاب نسجتها كف الشمس" وفيها " وأنت تقول للشوارع المظلمة : مازال قلبي يضيء ...ما زال قلبي يضيء..." وتقول " كأنك تريد أن تبوح ( المساحات التي تضيء قلوبنا يحبها الجميع) وورد فيها :" يا صديقي وأنت تلوح للأفق أفقًا ممتدًا، أراك تمسح دمعة خانت ميثاق التجلد،... تحتضن جبينك من جديد، وتعزف كالنخلة تتساقط رطبًا جنيًا، وتضيء الشوارع المظلمة .. إن قلبك لا يزال يضيء، قلبك يا صديقي لا يزال يضيء..." كما أن قصة أخرى حملت شطر العنوان وهي قصة " صديقي" ومعنى ذلك أن الإشراق يبدأ رحلته من فاتحة القصة الأولى للمجموعة ويسير معنا في تفاصيل قصص المجموعة .
التصدير : يتجلى في قصة بعنوان " إنني أموت، مهداة إلى عبد الباسط الذي لا أعرفه " وهذا الإهداء يمثل عتبة نصية جديرة بالتأمل تكشف عن مدىً جديدٍ في رؤية القصة فهي تتعاطف مع عبد الباسط الذي لا تعرفه؛ لأن التعاطف مع من تعرف لا يمنح الدلالة هذا العمق، ولعل تسميته بـ(عبد الباسط) فيه انتصار له من فقره، وكأنَّ الله قد بسط له من المعاني ما يعوضه عما حرمه من الحياة حين أخذ يبيع البيض على أرصفة الشوارع ، ينزف طفولته المعذبة منفياً إلى رصيف الحياة وحياة الرصيف.
اللغة السردية: يمكن تناول اللغة السردية على مستويي المفردة والتركيب في آن، ولو قمنا بعملية إحصائية لمفردة " القلب" الذي ورد في العنوان سنجد أنها تعد (المهيمنة) التي يمكن أن تكون مفتاحاً لعالم المجموعة فهي أكثر الكلمات شيوعًا، ولا تكاد تخلو منها قصة من القصص بل تتكرر في القصة الواحدة عدة مرات .
في القصة الأولى وردت مرتين" ..فالسعادة تكمن في قلبك، لا في شيء آخر." " بعد أن شعرت أني كسبت في قلبي عدة ملايين " .وفي قصة " الثلاثة " وردت في المواضع الآتية " كان يبدو لي منطفئ القلب .." و " كان قلبه يضخ بصورة منتظمة " وفي قصة رسالة ذات غربة ، تقول:" لكنك ألفيت أن فؤادك أضحى بارداً" . .. تنكأ قلبك الصغير " " نضحك من أعماق قلوبنا الثائرة " " لكن قلوبهم طيبة " " الشمس تعطيهم أشعة تنبثق من عيونهم وقلوبهم ، وأرواحهم .." وفي قصة " تفاصيل الحرب والسلام " تقول:" شيء واحد يثقل على قلبي أن تظل دواليب الحياة تدور بي وأنا أؤمن معيشتي، وأحسن من مستواي الاقتصادي" " ... كنت أتلمس قلبي بين حين وآخر " " .. الآن أتذكر كلام أمي وأفهمه ؛ و ... يمتلئ قلبي بالجبن " . وربما كانت قصة (كانوا صغاراً) أبرز القصص التي استحوذت على عدد كبير من مفردات القلب، ومن ذلك: " أليست لكم قلوب " الأيتام يملئون قلبي " " عدت إلى منزلي مجروحة القلب " إنها تطعمهم من قلبها" " قساة القلب " " في قلبه الصغير " " إن قدميه أطهر وأنظف من قلبك " " ستحصل على قلبك متسخاً " هم قلوبنا أولئك الصغار الحزينون " " هم أطفالك من قلبك لا تبصقهم في الطريق " " أيتام الأم والقلوب الرحيمة ، والوطن الدافئ والآمن .. " فقد بلغت عشر مرات مفردة ومجموعة وهذا العدد يتجانس مع موضوع القصة المتصل بعالم الأيتام، وتليها في ذلك قصة (رائحة المطر) إذ وردت مفردة القلب فيها سبع مرات.
أما الأساليب البنائية فإنها تدل بعمق على تلك الرؤية ولو تعقبنا عددًا منها في قصة رائحة المطر فحسب لوجدنا ما يأتي : " كان قلبي أبيض كالحليب " فاللغة السردية لغة شعرية عليا لجأت لتأكيد الصفاء بتشبيه القلب بالحليب .
وللتعبير عن إشراق النفس لجأت لمفردة الصفاء " وكانت عيناي (صافيتان) " " لقد شممت رائحة الموت كانت أزكى من رائحة الأرض بعد المطر. "
ولوصف الشخصية تقول: " هو نوراني وطيب " وكم هو التعبير جميلاً ورائعاً حينما عبرت عن هوان الدنيا بقولها: " فستان الدنيا كان قبيحاً وغليظاً " ويبلغ الإشراق مداه حينما تصرح بعمق الرؤية الإشراقية التي تجعل الأرض تتصل بالسماء وتستغني بالله عن سواه فتعبر بأسلوب استفهام تعجبي " كم هو لذيذ ألا تحتاج إلا لله، تتحطم أصنام الدنيا في قلبك ويشرق نور شاسع ومبهج " وللتعبير عن مدى الرؤية الإيجابية للمرض بوصفه ابتلاءً تعبر الكاتبة عنه بالذهب، وتعمد إلى استدعاء المقولة الشهيرة " إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " لكنها تحقق انزياحاً جوهرياً يقلب الدلالة المألوفة فتقول: " يا إلهي، السماء تمطر ذهباً. " وهذه الرؤية لا تتأتى إلا لمن يعانق رحابة التصور الإسلامي السليم لله و الكون والإنسان والحياة .
وفي قصة هواجس تقول : القصة لا تبدأ من حجرتي إنها تخترق القفص الصدري لتشتعل في قلبي ناراً وفي قصة (قلبك يا صديقي) تقول: قلبك يا صديقي تذوي ذبالته ما زال قلبي يضيء .. ما زال قلبي يضيء."
الرؤية الإشراقية وبناء الشخصية :
إن " الأفكار تحيا في الشخصيات، وتأخذ طريقها إلى المتلقي عبر أشخاص معينين لهم آراؤهم، واتجاهاتهم، وتقاليدهم في مجتمع معين وزمن معين "
إنَّ أول شخصية تبادرنا في المجموعة هي شخصية مبدع كادح تقدم لمسابقة ثقافية " اليوم هو الثلاثاء لم يتبق على إعلان نتائج المسابقة سوى ثلاثة أيام، الجمعة القادمة ستكون هي الحاسمة فإما أحصل على مليون ريال وإما أخسر ما دفعت للاشتراك في تلك المسابقة السيئة، إنها تجبر الكادحين على بيع ملابسهم لشراء حلم بمليون ريال، ربما يتحول إلى كابوس في لحظة واحدة. .. "
إن هذا المبدع الكادح يبدو في القصة من خلال التداعي، وانثيال أحلام اليقظة التي هي أحلام باهظة جدًا بحسب العنوان، يظل يحلم بعالم مشرق بديل عن واقعه المر الكئيب، (بسيارة حديثة، وفيلا أنيقة، ورصيد بنكي لائق ..إلا أن هذه الشخصية لا تغيب في أحلامها، حيث نجد صوت الشخصية يستيقظ مناديًا :" هيا قم يا عزيزي ، وانظر إلى الأمام، فالسعادة تكمن في قلبك، لا في شيء آخر. احترمت نفسي كثيرًا، وأنا أحدث نفسي بتلك اللباقة والثقافة، وتركت انتظار المليون بعد أن شعرت أني كسبت في قلبي عدة ملايين؛ أغلى من المليون السابق بكثير، ربما كانت بالدولار، أو باليورو، نعم شيء يشبه ذلك."
لقد كانت هذه هي نهاية القصة بهذا الإشراق فالرؤية الإشراقية تمنح الشخصية الرئيسة في القصة أفقاً يقيها من الانكسار والغياب في سكرة حلم لذيذ زاهق، وتنتصر لقيم الروح في وجه قيم المادة التي تكاد تمتص منا بريق الحياة ووهج الروح وإشراق القلب، حيث تجسّ القصة نبض الواقع المثقل بقيم التراب وأوهاق الأرض، وتمنحه كشفاً لعالم أقدر على تحقيق أشواق الروح ورفرفاتها ، وتشعل قناديل تضيء السبل لكثير من المكدودين الباحثين عن السعادة ...التي هي كما يقول الشاعر :
أيها الشاكي الليالي إنما الغبطة فكرة
ربما حلت في الكوخ وما في الكوخ كسرة
وخلت منها قصور عاليات مشمخرة
لك - ما دامت لك - الأرضُ وما فوق المجرة
فإذا ضيعتها فالكون لا يعدل ذرة .
وفي قصة (قلبك يا صديقي) نجد القاصة ترتقي بشخصيتها عبر البناء السردي من شخصية متشائمة تردد: "نضب الزيت ومصباحي انطفأ" إلى شخصية تبحث عن النور بالنور، تتداخل مع شخصية الفيلسوف اليونااني (ديوجين) حينما خرج في الظهيرة يحمل فانوسه باحثًا عن (إنسان)!
تقول اروية القصة التي تتبدى بضمير المتكلم:
تترنح الكلمات قائلا:
نضب الزيت ومصباحي انطفأ..
لكني لا أصدقك؛ فقد رأيتك البارحة تسير في الشوارع تحمل فانوسك وتشعل به النوارات المنطفئة..كان الليل قاتمًا، وكان القمر في كمد ...وأنت كنت تقول للشوارع المظلمة: ما زال قلبي يضيئ...ما زال قلبي يضيء."
وفي قصة (الثلاثة) تتجلى الشخصية من خلال الوصف في هيئة تنم عن هيمنة ( ثيمة ) الإشراق على هذه المجموعة:" عندما صافحته لأول مرة لم أكن أعتقد أني سألتقيه مرة أخرى، كان هادئًا وحزينًا؛ غير أن حزنه لا يشدك إليه، كان يبدو لي منطفئ القلب، لذا لم توحِ لي سحنته بأن ثمة لقاء ما قد يكون بيننا.."
...قلت له بدون أسف : هل من المعقول أن تكون ذلك الشخص الظل ؟ إنه قاتم ومنطفئ."
" وجدته هذه المرة أكثر اختلافًا من المرتين السابقتين !كانت نظراته مطاطة ،وكان قلبه يضح بصورة منتظمة .. كان يبدو لي آليًا بعض الشيء وبدا لي أني لا أفهمه.."
إن الشخصية الموصوفة تبدو في عين الشخصية الواصفة شخصية قاتمة خالية من الإشراق؛ ولذا لم تستطع الشخصية (المتكلمة) أن تقيم حوارًا حقيقيًا مع هذه الشخصية قائلة:" ربما لأني لم أعرفه، وربما لأن لغة مشتركة لم تنشأ بيننا."
ويبدو من خلال الحوار أن الشخصيتين لم تنشأ بينهما لغة التعارف بل كان التناكر والتنافر؛ لأن سر الإشراق لم يكن قد تمكن من الشخصية الأخرى" قاتم ومنطفئ" وهذا يتنافى مع روح الإشراق وإشراق الروح.
ولعل قصة رسالة كتبت ذات غربة المصدرة بإهداء:" إلى أخي مع غصة عظيمة" تبدو أكثر عمقًا وقدرة على التقاط الدلالة في رسم الأبعاد الإيمانية للأخ المهاجر إلى منهاتن التي تعزز الرؤية المهيمنة على المجموعة " أخي هل كانت الأجراس التي دقت ذلك اليوم تنعى رحيلك؟! وعندما ارتفع الأذان عبر الساعة التي أهديتك إياها ذات يوم ونسيتها فوق مكتبي ..هل كنت حينذاك تستعد للصلاة؟
وتلك الفرنسية التي حدثتني عنها؛ وهي تقرأ القرآن عبر مصحفها الممزق، ألا زالت تحدق في البعيد، وتتمتم بكلمات لا تفهمها، لربما تقول ارحمني يا الله.. هل كانت تقول؟
" ... الشطيرة التي لففتها لك بعناية ألا زلت تتحسسها ؟...إنها ذكرى هكذا قلت لكنك أهديتها لذلك الإسباني الذي جلس بجوارك.. راقك منه سمار بشرته، وتنسمت رائحة الشرق البعيد بوجوه ناسه الكالحة لكن قلوبهم طيبة، وأرواحهم المحبة.." فالقصة لا تجعل من الغربة في ( منهاتن ) فرصة لضياع الشخصية والابتذال الأخلاقي، كلا إنها تؤطر شخصياتها بالرؤية المؤمنة التي تجعل من لقاء الآخر سانحة لالتقاط أجمل ما عنده، لإقامة حوار يقوم على المحافظة على الهوية، فالساعة التي أهدتها لأخيها ليست لحساب الزمن فقط بل هي إعلان للأذان، تؤدي مهمة أيدلوجية، تقف أمام صوت الأجراس التي تحيل على مفهوم ثقافي ديني يتصل بالكنيسة.
كما أن الشخصيات الأوربية التي استدعتها القصة في سياق تفاعل الشخصية بالفضاء الثقافي هما شخصية المرأة الفرنسية والرجل الأسباني، ولعل الذاكرة السردية العربية تحفظ لنا صورة المرأة الأوربية بوصفها وسيلة للإغراء، وبوابة لانحراف الشخصيات العربية في المجتمع الأوروبي منذ (مواسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح وسواها من الأعمال السردية فإنها هنا تتجلى على شاكلة أخرى، فالفرنسية التي تحدث عنها لأخته هي فرنسية تقرأ القرآن عبر مصحفها الممزق، تحدق في البعيد، إن التحديق هنا تحديق متعلق بالبصيرة لا بالباصرة إنه تحديق الرؤية المؤمنة التي لا ترى الحياة في الماديات فحسب، إنها امرأة متمردة على ثقافة المادة وفلسفة الجحود، تتعلق بالقرآن ومن خلاله تنظر في ملكوت الرؤية الإيمانية المشرقة.
ويتجلى المصحف رمزًا للهوية المؤمنة في قول الشخصية: "لا تنس أن تذكر ذلك المدرس وأنت تنهره بقسوة ؛لأنه حاول مس مصحفك المقدس :" لم أعلم أني سأفعل ذلك" هكذا علقتَ وأنتَ تجلدُ نفسك بسخريتك المرة ...وتضحك."
فالشخصية تعتز بمصحفها، ولا تسمح بمساسه " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون." لقد نهره بقسوة وهي قسوة لا تليق بطالب إزاء أستاذه لكن قداسة المصحف وخوف الشخصية من أن يمسَ مصحفها من ليس بمؤمن ربما تسوغ له ذلك، ومع ذلك أخذ يجلد نفسه بسخرية مرة.
كما أن الرجل الإسباني الذي أهدته الشخصية المغتربة الشطيرة التي كانت مخبأة بوصفها ذكرى من أخته.. جاء وصف هذه الشخصية وصفًا لامحا، لقد " جلس بجواره، راقتك منه بشرته السمراء وتنسمت رائحة الشرق" إن هذا الوصف ليس وصفًا بريئا إنه وصف محمل بدلالة ثقافية فالأسباني الأسمر هو من أصل عربي بدلالة اللون يحمل هوية الشخصية المهاجرة، وكان الجلوس بجواره تعبيرًا عن اللقاء بالآخر، الآخر الذي هو الأنا المفقودة في فردوس الأندلس التي لا ينتهي الحنين إليها، فالقصة بهذا الوصف القصير للشخصية تختزل أبعادًا ثقافية كثيفة، تعزيزًا لمسار الرؤية، وتتويجًا للرؤية الإيمانية القويمة.
الرؤية وبنية المكان :
هناك علاقة تلازمية بين المكان والشخصية كما توجد بينهما علاقة تبادلية تجعل كل عنصر يؤثر في الآخر، فالمكان يترك بصمته على الشخصية بكافة أبعادها " " بل إن نظرة الشخصية للمكان قد تكون متأثرة بحالتها النفسية ومشاعرها فتعكس ذلك على المكان " تتواشج الرؤية الإيمانية مع عنصر المكان وتضفي القاصة على هذا العنصر طابع الرؤية وخصوصيتها، ومن ذلك:
وصفها للشرقيين (الشرق هنا مقابل الغرب) " الشمس تعطيهم أشعة تنبثق من عيونهم وقلوبهم وأرواحهم المحبة "، الشرق يرتبط بالشخصيات المتحدث عنها (الشرقيون) فالمكان يؤثر فيهم ويمنحهم الإشراق، وهذا الإشراق نابع من طبيعة الرؤية التي تتسلح بها القاصة في صياغة العالم القصصي لشخصياتها، كما تقول الراوية عن عاملة النظافة " جلست على الرصيف بعد أن تعبت من الوقوف تحت وهج الشمس".." فالرصيف مكان لكنه في حالة شروق الشمس وسطوعها، وتقول " يا إلهي السماء تمطر ذهبًا" فاختيار السماء له دلالة غير الدلالة التداولية إنها دلالة رمزية إذ إن السياق يعبر عن سماء الروح، بعد أن أصيبت الشخصية بالمرض .
وتقول: " أيها الصديق الفارع الروح كنخلة رائعة الانعتاق ..أراك كلما وثبت نحو السماء تلألأت نورًا كقطعة سحاب نسجتها كف الشمس."
وختامًا:
يمكننا القول بأن مجموعة (قلبك يا صديقي) مجموعة قصصية تتميز بإشراق الرؤية التي انعكست على عناصر البناء القصصي مثل الشخصية واللغة والمكان تندس بين خلايا النص السردي موضوعا وبنية، مما يجعلنا نؤكد بأنها مجموعة قصصية متفردة في تماسك هذه الرؤية التي نجحت في تقديم بناءها الرؤيوي المستمد من صفاء التصور الإيماني للإنسان والكون والحياة ،ويمتد عبر أوعية سردية تعتمد الإشارة والتلميح والإثارة الفنية .
المصادر والمراجع:
بناء الرواية، دراسة في الرواية المصرية، عبد الفتاح عثمان، مكتبة الشباب مصر،ط1982م.
بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ، ط1، 1990م.
البناء الفني في الرواية السعودية، د حسن حجاب الحازمي، ط1،1427هـ / 2006م .
خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، دار الشروق ط4 ، 1398هـ/1978م.
الرؤية في شعر ذي الرمة ، مجلة جذور،نادي جدة الأدبي، ج16 ، مج 8، محرم 1425هـ، مارس 2004م .
عشبة أزال ، د. علي حداد ، اتحاد الكتاب العرب دمشق ، ط1، 2003م .
العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي : محمد فكري الجزار ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006م .
قلبك يا صديقي ،نجلاء العمري ، صادرة عن دار وجوه للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط1 ، 2007م .
لسان العرب، ابن منظور، مادة (رأي)
مقومات التصور الإسلامي، دار الشروق ط1 ، 1406هـ/ 1986م.
النص الموازي : آفاق المعنى خارج النص ، احمد المنادي ، علامات في النقد ، النادي الأدبي الثقافي بجدة ، جمادى الأولى ، 1428هـ ، مايو 2007م.
*د . عبد الحميد الحسامي - أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعتي إب والملك خالد.