إعادة تموضع
السبت, 13 نوفمبر, 2021 - 10:07 مساءً

ما حدث في الساحل، هو قمة العبثية، لا ذكاء في الأمر،  بل عدمية سياسية فاضحة، المهزلة في ذروة تجلياتها، الأمر ليس تفريطًا بأرض شاسعة دون مبرر، بل خيانة متعمدة للدم والتضحيات، وكأن الناس لم يخوضوا حربًا قاسية، بل لعبة قمار انتهت بتخلي قائد اللعبة عن جميع المكاسب، هكذا فجأة وبمزاج غير قابل للتبرير ولا حتى التفسير.
 
يقول نبيل الصوفي : " هذا تحرير لمعركتنا الوطنية من قيود الاتفاق" ونبيل هذا راسم السياسات في الساحل أو أحد وجوهها، إنه الشخصية الأكثر قدرة على الحذلقة وتسويغ الخيانات، لكنه هذه المرة لا يتمكن من اقناع الناس بشيء. كيف يكون تحرير المعركة بالتخلي عن الأرض، كيف تكون الخسارة نصرًا تخطيطيًا. ألم يكن من الممكن إعادة تنشيط القوة المتواجدة في الساحل دونما تفريط بالمكاسب..؟ أي ذكاء هذا لا يتجسد إلا بهذه الطريقة الغبية" إعادة التموضع"
 
"إعادة التموضع" هذا مصطلح لا يفسر شيئًا، وكعادة العقل العسكري يصك مصطلحاته بطريقة لا تمنحك دلالة واضحة، إنه متخصص في التمويهات حتى وهو يستخدم اللغة، لا يسعفك لتوضيح شيء؛ لكن الجمهور ليس مطالبًا بالعودة لقواميس العسكر كي يفهم ما يعنيه جنرال الساحل حين يتحدث عن " التموضع" إنه غطاء تبريري بليد لكل نكسة، هكذا يفهمه الناس، لقد بات مصدر سخرية، دلالة تواطؤ وربما عجز، أكثر مما يحيل لذكاء من أي نوع.
 
سيقولون لك: أنت لا تفقه خطط العسكر، وأن الأمر يتضمن أبعاد حربية تقتضيها إعادة إصلاح الوجهة العامة للقوة الميدانية، ومنحها مدى واسع للحركة، إنها تدابير ضرورية للتخلص من قيود الواقع. سيحاولون ايهامك، بوجود خطة من نوع ما، لكأنها معادلة فيزيائية معقدة، ويصعب عليك تفكيكها.
 
وفي الحقيقة كل هذا محاولة للتذاكي عليك، وكعادة الطبيعة والمنطق السائل، فكل شيء قابل للتبرير حين يفتقد الإنسان للنزاهة، وحتى أشد السياسات كارثية عبر التاريخ، كانت قابلة للتبرير وفي المنطق ما يكفي من الحيل لفعل ذلك.
 
أما كامل الخوداني_وهو أعقلهم بالمناسبة_لكنه ذهب يشتاط غضبًا في تويتر، ضد كل من يعلق على الحدث، قائلًا : لا أحد يستحق التوضيح، ويذكرهم بفشلهم وأحقادهم. والمرء لا يغضب حين يملك حجة، فالطاقة التي يتطلبها الغضب مهولة، ولا يحتاج ربعها كي يشرح موضوعه بهدوء..كما ينتابك إحساس بوجود لغز يصعب على الناس فهمه، حين تتابع محاولاتهم لشرح ما حدث، لربما أن التلاميذ لم يفهموا الدرس بعد، أو أن  المعلم لم يوضح لهم القصة بتركيز جيد.
 
لسنا حاقدين، ولا أحد يبتهج بهذا النزيف المجاني للتضحيات، هذا بؤس، وطارق هنا لا يخذل الناس، بل يخذل نفسه أيضًا، نفسه وجنوده وكل من يعلق عليه أمل ما، ومن حقهم عليه أن يفهموا، من واجبكم أن تشرحوا للناس، لماذا فرطتم بالأرض.. لماذا ارتبكتم، لماذا حدث كل ذلك فجأة ودون أي مسوّغ مستجد، يبرر تلك اللعبة..؟
 
لا تستعجل يا فتى، انتظر الأيام القادمة، لقد انتظرت ثلاث سنوات، وعليك أن تنتظر، لربما في الغد تتكشف لك نتائج العبقرية هذه، وإن لم تنكشف، فليس عليك أن تشكك بها، ولا تفقد يقينك بأن شيء ما سيحدث، وكأنك بانتظار "جبريل" ليأول لك ما حدث، وربما "ابن زايد" لينقلك نحو وجهة أخرى، وهكذا حتى تتبخر الأرض من تحت يديك، ويبتلعك الحوثي مرة ثانية. وفي كل الحالات، من المعيب أنك تشك بوجود خيانة، فأنت حاقد وربما لا تفهم في السياسة.
 
صحيح أن ما حدث ليس حركة فارغة من الدلالة، ولا بد أن رغبة سياسية تقف خلفها، لكن مهما كان جدوى ما حدث بالنسبة لمهندس الحركة هذه، انسحاب قوات طارق من مشارف الحديدة، إلا أنها في كل حالاتها، ليست في صالح الناس ولا معركة استعادة الدولة، وبالضرورة هي في صالح الحوثي وكل من يتواطئ معه.
 
يقول بيان القوات هناك: إن الهدف فتح جبهات أخرى، وفي الحقيقة، لا يوجد جبهة أشد أهمية_بعد مأرب_ مثل الحديدة، ومغادرتها ليس في صالح مأرب، بل على العكس هو منح الحوثي نشوة أخرى، أما طارق فلا يهمه، سوى البحث عن نشوته الخاصة، وتلك نشوة تكمن حين يريد الممول وبما يرضيه.
منحت الإمارات طارق هامش للمناورة الكلامية، وبدأ طوال السنوات الماضية كما لو أنه يتحرك باستقلالية في رسم سياساته، لكنه عمليا، وحين تكون سياسته على المحك لا يخالف الإمارات مثقال ذرة، ومن الواضح أن الإمارات لا تكترث للحديدة، كمدينة ومستقبل الناس فيها، هي تريد السواحل بالطبع، لكنها لا ترغب أن تشتبك مع الحوثي هناك، كي لا تثير حفيظة إيران، ومن هنا لم يتبق لها سوى تغيير الوجهة، لربما بالتوجه نحو سواحل شبوة كما يقول البعض، فالمزاحمة هناك سهلة ولا يوجد من ترتعب منه إمارة دبي في هذا الجانب. بل لربما تعوض انسحابها من ميناء بلحاف، بالدفع بقوات طارق نحو المنطقة ذاتها، إن صح أنها هدفهم القادم.
 
مرة أخرى، لا يوجد أي نوع من الدهاء فيما حدث بالساحل، هناك ريبة، غموض يحاول أنصار طارق تحويله لنوع من العبقرية الغير مفهومة، وتلك حيلة العقل حين يعجز عن تفسير قضية ما، فيلجأ لتحويلها نحو تفسيرات غيبية ويصبغ عليها هالة من الذكاء المجهول. فيما الحقيقة عارية، يفهمها الناس العاديين بحسهم البديهي المباشر: لقد خان طارق قومه كما فعلها أول مرة.
 
*نقلا عن موقع قناة بلقيس
 

التعليقات