خطفت قلبي تلك الصور كنت أقلبها هذا الصباح بشغف وتودد كأنني احتضنتها لتوي وكأني اللحظة في ذلك المكان ،منبر المسجد ،حلقة العصر في رمضان ،والسجاد الأخضر المخطط باللون اللبني ، والحلقة الدائرية ورجل هنالك في نهاية الخمسينات أو يكاد ، ينصت إليه الناس في هذه الحلقة الإيمانية في واحد من نهارات رمضانات البهية في سنين طفولتي الأولى.
لكأن الصورة كانت هدية لروحي فقد أحيت تلافيف الذاكرة وجردتها من عفن الأيام الممل .
كنت طفلاً يتقافز بين أماكن الوضوء في جامع الغفران العتيق في شارع 26 سبتمبر قبل أن يتم ترميمه وتجديده ،أعبر مساحة الوضوء من بركة كنت أتجاوزها بحذر رغم صغر سني ولا أجد تفسيراً لذلك سوى أنني لم أكن أحب أن أمرر أقدامي منها كما يفعل الناس جميعاً ثم أدخل إلى المسجد والصفوف الأولى لأصلي العصر برفقة شيخ هذا المكان الذي كان بمقام والدي أو لأقل أبي الروحي، كنت أناديه الشيخ فقط وكان الآخرون ينادونه الشيخ عبد الرحمن، هو شيخ بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، شيخ في التجربة وشيخ في المكانة وشيخ في العلم وشيخ في الحزم وكان لا يحب من كل ذلك سوى أنه أستاذ وعالم وفقيه أما بالنسبة لي الآن فهو شيخ طريقة ، طريقة تعلم وتدرس فهو السهل الممتنع كإنسان والسهل الممتنع كفقيه والسهل الممتنع كرجل مجتمع والسهل الممتنع كأب.
كان جامع الغفران في وسط مدينة تعز وبالقرب من باب الكبير مهوى أفئدة الكثيرين وكان عند التراويح يعج بالمصلين ، ثلاثة وعشرون ركعة يحبها الناس لأنهم سيلتقون بالشيخ عبدالرحمن قحطان ولأن المسجد يمثل لهم الكثير فهنا وجد الكثيرون أنفسهم ،تعلموا الفقه والقرآن والنحو على مدى عشر سنوات إذ كان إمام هذا الجامع مثالاً في الإلتزام بالدروس والتدريس وكنت طفلاً لا أعلم سر جاذبية هذا المكان وهذا الشخص لكنني فيما بعد عرفت لماذا؟
الآن استعادتني صور إحياء الذكرى الأولى لرحيله فترقرق القلب قبل العين بدمع ساخن وأنا لست كالآخرين أحتاج لسيل من الذكريات ليقربني من تلك السنين الخوالي عن طفل يركض بين المنبر والمصلى عن خاطرة مابعد الصلاة التي كنت أرتعش عندما ألقيها للحاضرين قبل أن يقوى عودي وعن ذلك الشعور الروحاني الذي يتلبسني كل رمضان حتى الآن ، كحالة من حالات الرضا والإيمان بعد أن أؤدي صلاة العصر فأخرج مع الشيخ المحفوف بحب الناس راجلاً على الأقدام يوزع ابتساماته واسئلته على الناس وعطاياه على المحتاجين ويخاطب الباعة وهو يشتري احتياجاته منهم بكل حب وينثر عبيراً من مغادرته المسجد في شارع 26 سبتمبر ماراً بالمركزي وعصيفرة حتى الوصول إلى المنزل .
كبر الطفل أصبح أباً وغادر الشيخ هذه الحياة ولازال في ذاكرة عشرات الآلاف ،والطفل معلق بين الأمل والحب أمل أن يعود إلى دياره الأولى مراتع صباه وتألقه وجموحه وبداياته والحب للذكرى التي لم تبرح خياله.
لازلت أمر بذاكرتي من تلك الأماكن برفقة شيخي الذي كان يعول علي كثيرا ،يسأله الناس لسنوات طويلة هل هذا ابنك فيومئ بنعم.