هل صار علينا أن نقول: جمهورية بمن حضر
الخميس, 28 أبريل, 2016 - 08:02 مساءً

بهدوء ومسؤولية يتعامل وفد حكومة الجمهورية اليمنية مع يوميات الحوار وما يطرأ. لا صور، ولا رقصات في الشوارع، لا صرخة، ولا قات.

أيام عصيبة تمر، ومع مضي الوقت ينخرط الرعاة الإقليميون والدوليون مع سائر اليمنيين في الذهول والحيرة: كيف يفكر أولئك البشر القادمون من صنعاء؟ ولا يملك أحد إجابة ولا حتى مخططاً لإجابة.
التقى الحوافيش مع أمير الكويت وسمعوا احتجاجاً واضحاً على هيئة عتاب، وفي اليوم التالي وافقوا على جدول الأعمال. سبق أن وافقوا على ذلك الجدول من قبل مرتين، في صنعاء وفي الرياض. في المرة الرابعة، بالأمس، قالوا إنهم لم يوافقوا على شيء!

في الكويت ليس مطلوباً من وفد حكومة الجمهورية اليمنية أن يخترع العجلة ولا أن يكتشف النار. لنذكر بما جرى حتى الآن:

جاء الحوثيون، وهم لا يمثلون أي دستور ولا قانون، إلى المدن بالسلاح. تخلصوا من السياسة والإعلام وامتلكوا الجيش، ثم أسسوا دولة جديدة وسياسة جديدة وإعلاماً جديداً، واحتلوا القصر الجمهوري وعينوا رئيساً من آل بيت الحوثي. سرعان ما تدحرجت كرة النار التي أحضرها الحوثيون وصارت حرباً واسعة خلقت من المجاعة والتشرد أكثر مما خلقته من الجرحى، وذهبت كل قرية في اليمن على الأقل مرتين إلى المقبرة!
من زاوية أخرى: جريمة الحوثيين في الأساس سياسية، ودائماً جريمتهم جنائية أيضاً. وهم مطلوبون لكل أشكال العدالة في أي عصر، وعلى كل أرض.
في تعز، بحسب تقرير رسمي، ١٧ ألف جريح! يعادل هذا العدد سكان مدينة صغيرة. أن يكون لديك مدينة كلها جرحى.

لا يبدو الحوثيون مدركين لحجم الكارثة. فهم قادمون من تشكيل اجتماعي يبدي استعداداً على الدوام لخوض حرب لعشرين عام على أرضية صغيرة "عشرين متر في عشرين متر" ولو أهلكت القبيلة كلها. فيما لو نظر تحالف صالح ـ الحوثي لصنعاء كأرضية فسيموتون تحت أنقاضها على أن يعيدوها للحكومة / الدولة.

في ٢٠١٠ كنتُ أمشي في مستشفى في صنعاء وسمعت امرأة تتحدث هاتفياً، وتقول وهي تحرك يدها للأعلى والأسفل:
"شل عقلي شل كبدي شل عيوني شل قلبي بس لا تشلش حقي الأرضية".

صنعاء الآن تبدو كأرضية. قبل أشهر قال طارق صالح لوسيط كان يحدثه من الرياض: سنقاتل عن صنعاء ولو صارت حجراً على حجر!
تجاهلت الحكومة إرسال ممثلين عن المقاومة وعن الجنوب إلى الكويت.

المقاومة الشعبية لم تنشأ كاستجابة لنداء الحكومة، كما قال بيان لواء الصعاليك تعليقاً على مفاوضات الكويت. وفي عدن فر الجميع، وبقي الطلبة والتيارات الإسلامية والحراك الجنوبي، وبصورة طوعية حملوا السلاح، ليس دفاعاً عن السلطة ولا تمثيلاً لها. المقاومة الشعبية التي استطاعت أن تحول دون سقوط المُدن هي المعنية بالحديث عن مستقبل تلك المدن. وجود ممثلين للمقاومة الشعبية سيضع حقائق جديدة على الطاولة، وسيسرد حقيقة الجريمة الجنائية الكبيرة التي ارتكبها الحوثي لا الجريمة السياسية. فالانتقال إلى تسوية سياسية من شأنه أن يمر عبر مشروع للعدالة الانتقالية، وتلك من أهم أعمدتها تسوية حقوق المظلومين والمعتدى عليهم بطريقة تحفظ لهم الكرامة ولا تمنح الظالم الفرصة الكاملة للنجاة.
من سيتحدث عن ثلاثة آلاف أسرة من تعز سقط لها ثلاثة آلاف قتيل، وعن ١٧ ألف أسرة في تعز تعيش مع ١٧ ألف جريح، عن ٢٠ ألف أسرة منكوبة!

كيف ستحضر هذه الأرقام في المفاوضات؟.

من الملاحظ أن وفد الحوثي خرج إلى الشارع يرقص البرع، ويلتقط الصور، ثم عاد إلى غرفة التفاوض وببرود مثير تحدثوا عن حكومة وحدة وطنية. لا يعترف الحوثيون بالجريمة السياسية التي ارتكبوها ولا يريدون مناقشة الجريمة الجنائية، لا عشرات آلاف الجرحى ولا آلاف المعتقلين، ولا عشرات آلاف الفارين من منازلهم.

نحن بإزاء كارثة هي الأعظم في تاريخ اليمنيين، بينما تتجه الحوارات إلى الحديث عن استعادة الأسلحة الثقيلة التي سبق أن قال "العسيري" أن التحالف قضى على ٨٥٪ منها..

في الواقع لا ينبغي العك كثيراً حول هذه الفكرة، فلم يعد الحوثيون يملكون الكثير من الأسلحة الثقيلة: القوات البحرية والجوية صارت ركاماً، معسكرات الجيش سويت بالأرض، مخازن السلاح وأسراب الدبابات والمدرعات تعرضت لتدمير شبه كامل. بقي لدى الحوثيين بعض الآلات الثقيلة المخبأة. لا يمكن القول إن المدرعات والدبابات الخابئة تحت شجرة في جبل، أو صندقة في تهامة تمثل جيشاً أو أسلحة ثقيلة.
بقي لدى الحوثيين الموجات البشرية. ذلك هو السلاح الثقيل.
بصرف النظر عن هذا التفصيل..
ما الذي سيجبر الجنوب، أو سيغريه بربط مصيره بمصير الشمال؟ يوماً وراء آخر يتشكل جيش في الجنوب، وتظهر السلطات المحلية إلى العلن، وتستعيد المدن عافيتها. لماذا يتحتم على الجنوبيين الانتظار حتى يقبل عبد الملك الحوثي بخوض حوار جاد؟

وإذا كان الحوثيون ـ صالح ينظرون إلى صنعاء كأرضية، ويبدون استعداداً للقتال حتى تصير حجراً على حجر، فليشق الجنوب طريقاً بعيداً عن تلك الأرضية السامة. تلك هي العدالة، حقيقةً. انج سعد فقد هلك سعيد.
غياب ممثل "حقيقي وشعبي" للجنوب عن مفاوضات الكويت ينتقص من مشروعية وفد حكومة الجمهورية اليمنية.

يستطيع ممثل الجنوب أن يقول بصرامة دبلوماسية: لا تزال هناك فرصة ما للعيش داخل دولة واحدة ذات طبيعة سياسية جديدة، ونحن لسنا على استعداد لمزيد من المقامرات، وإذا لم تكونوا مستعدين لتسليم الأسلحة والخروج من المدن والسماح بعودة حياة سياسية "غير مزيفة" فلدينا طريق آخر، لدينا أرض محررة ومقاومة وجيش، واستعداد شعبي شعبي غير مسبوق للسير في طريق آخر. وثمة تجمعات إقليمية ودولية ستقع عليها مسؤولية حماية اختيارنا.

يلمح البخيتي إلى أن المجتمع الدولي سيتعامل مع عصابات صنعاء باعتبارها حكومة أمر واقع، فيما لو فشل حوار الكويت. التفكير الحوثي يشطب الجنوب، معتقداً أن السيدة الهاشمية التي جلبوها من الجنوب إلى الكويت، فائقة السيد باعلوي، قد ضمنت لهم الجنوب. هي أيضاً صدقت هذا الوهم ويقال أنها قالت لمسؤول دولي في واحدة من جلسات النقاش "يفدو بك على فيشتي". استخدمنا كلمة "فيشة" لنخفي الكلمة الحقيقية التي يتردد أنها قالتها. كان منظراً مثيراً، إذ بدا صالح والحوثي وهما يختبئان داخل فيشة فائقة السيد. وبدا الجنوب في الوعي الحوثي بحجم فيشة هاشمية.
أخبرني أحد الإعلاميين المرافقين للوفد الحكومة عن الموقف وقال إنها فقط استخدمت الإشارة بالإصبع الوسطى. ع كل حال، هذا مش موضوعنا.

في الواقع لا وجود، بالمعنى الكلي، لدالة المجتمع الدولي. وفيما يخص اليمن فالمجتمع الدولي هو المملكة العربية السعودية، وهو الكرة الأرضية الوحيدة التي تحيط باليمن، وثمة تسليم دولي كامل بتلك الحقيقة. في مجلس العموم البريطاني رد ديفيد كاميرون على التقرير الذي اتهم حكومته ببيع السلاح لدولة تقتل اليمنيين بأنه لم يفعل شيئاً خارجاً عن القانون، وأن بريطانيا ليست جزءاً مما يجري هناك، مذكراً النواب بحقيقة أن السعودية تقف إلى جوار حكومة شرعية يعترف بها العالم. يريد البخيتي أن يبيع فكرة صبيانية تقول إن تعنت العصابات كفيل بجعل العصابات حكومة شرعية والحكومة عصابات. وفيما يبدو فإن قناة المسيرة أكثر من قناة، إنها فكرة!

الأراضي اليمنية المحررة، وقد استطاعت أن تحتفظ بكرامتها واستقلالها عندما كان الحوثيون يملكون ٨٠ لواءً عسكرياً وآلاف الدبابات وعشرات المروحيات، غير مضطرة للاستسلام لعصابات لم يعد في حوزتها سوى ثمانين طقماً عسكرياً "مجازاً"..

ثمة خيارات مرة، مثل خيار: جمهورية بمن حضر.
عنصر هام يغيب عن النقاشات العامة:

يصر الحوثيون على عمل كل ما من شأنه لدفع رواتب الموظفين العسكريين والمدنيين. يريدون بذلك التأكيد على كونهم سلطة مسؤولة. تجاوزوا الفارق الدقيق بين العصابات المسؤولة والعصابات غير المسؤولة، ويحاولون الاحتفاظ بتلك الصورة. لن يمضي سوى وقت قصير حتى يتلاشى الريال كلياً. لدينا مثال مدوي: زيمبابوي. تعنت موغابي ورفض الاعتراف بالعالم، وقال إن أحداً لا يملك الحق في حكم بلده سواه. مع العزلة المتزايدة أصبح على المرء أن يملأ سيارة نصف نقل من العملة المحلية حتى يتمكن من شراء علبة بيبسي. بلغ التضخم ٢٣٠ مليون بالمائة! الطريق واضح: عزلة دولية، حرب أهلية، وحرب في جمهورية الكونغو الديموقراطية. وصفة جاهزة استلمها الحوثيون. لا يمكن للمرء أن يوقف انهيار الريال عبر الأطقم العسكرية التي تعتقل صرافي العاصمة، فالريال ليس طالبة ثانوية عامة يمكن منعها من ممارسة هوى. ولا حتى طالبة الثانوية العامة!

هذه الصورة الميلانخولية تجعلنا نقول:
ربما إن الأسوأ لم يحدث بعد..
 

التعليقات