حتى النفس الأخير.. "عذاب" مازن الحمادة في معتقلات الأسد
- الحرة الثلاثاء, 17 ديسمبر, 2024 - 09:50 صباحاً
حتى النفس الأخير..

[ مازن الحمادة.. ملحمة إنسانية بالسجون السورية ]

بعد سنوات قضاها داخل معتقلات نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، حيث يتحول الجسد إلى ساحة حرب يتلقى الضربات، ويصبح الإنسان مجرد رقم بين الأشلاء، خطّ الناشط السوري مازن الحمادة بدموعه شهادة حيّة عن الألم والمعاناة. لكن رحلته، التي كانت شاهدة على جرائم النظام، انتهت بموته داخل المعتقل نتيجة تعرضه لتعذيب وحشي.

 

عثر على جثة مازن في مستشفى حرستا بدمشق، خلال فتح فصائل المعارضة السورية معتقلات النظام، وكشفت ابنة شقيقه جود في منشور عبر حسابها على "فيسبوك" أن جثمانه بقي لأسبوع في المستشفى، حيث ودعته قائلة "لو كان بإمكانك أن تتحمل هذا الأسبوع فقط يا حبيبي... وداعاً مازن... وداعاً أيها الصادق... وداعاً أيها النبيل".

 

لم يتخيل ابن مدينة دير الزور، العامل في قطاع النفط، أن تتحول حياته إلى كابوس منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث كان من أوائل المنخرطين فيها، لتقوده تلك الخطوة إلى معتقلات الأسد، حيث واجه فصولاً مروعة من العذاب.

 

اعتقل مازن مرات متعددة، بدأ ذلك في مدينته، ومن ثم في سجون دمشق المرعبة، وبالتحديد في مقر المخابرات الجوية في حي المزة، كان ذلك عام 2012، حيث خاض تجربة تعذيب مروعة، تركته حطاماً من إنسان، قبل أن يعتقل من جديد حتى قضى داخل معتقلات الأسد.

 

ملامح مازن كانت تحكي قصته، جسد نحيل وعينان غارقتان تعكسان عمق الألم الذي عاشه. لم يكن مازن مجرد جسد يحمل آثار التعذيب، بل روحاً مثقلة بذكريات أليمة، تحاول الصمود رغم الأرق والكوابيس التي تلاحقه.

 

أما اللغز الأكبر في حياته فكان عودته في فبراير 2020 إلى سوريا، وكأنه كان يمشي نحو مصيره المحتوم، فبعد أن نجا من أنياب التعذيب، عاد من جديد إلى نفس الجحيم.

 

وفي تصريح لافت، أكد رئيس حكومة تصريف الأعمال السورية محمد البشير أن حكومته لا تملك أي عملة أجنبية، مشدداً على أن ما تبقى في الخزينة هو "الليرة السورية التي لا تساوي شيئاً".

 

رحلة الموت

 

تستعيد جود، ابنة شقيق مازن، تفاصيل الرحلة المأساوية التي قادت عمها إلى معتقلات النظام السوري، وتروي كيف استدرج من الملجأ الآمن في هولندا، ليواجه مصيره القاسي داخل الوطن الذي كافح من أجله.

 

تصف جود آخر لقاء جمعها بعمها بعد خروجه من اعتقاله الثالث في عام 2014، قائلة "كان يبدو متعباً نفسياً رغم محاولته الظهور قوياً. استمر تواصلنا بصورة متقطعة بعد سفره إلى الخارج".

 

وتشير إلى أن فكرة عودته إلى سوريا راودته كثيراً، إذ أطلع عائلته على نيته بذلك، مما دفعهم لمحاولة ثنيه، وتوضح: "في عام 2019، حصل مازن على جواز سفر صادر عن السفارة السورية في ألمانيا، إلا أن أحد أقاربي تعمّد إتلافه بوضعه في الغسالة، في محاولة لإبعاده عن هذه الخطوة الخطيرة. لكنه تمكن لاحقاً من الحصول على جواز سفر جديد، نتوقع أنه مزور بحيث يحمل اسماً مختلفاً، وذلك عبر السفارة نفسها".

 

وتقول جود "لا نعلم كيف خُدع، ربما تعرض لتهديد يمس أفراد عائلته في سوريا أو تلقى وعوداً بإطلاق سراح أقاربه المعتقلين منذ سنوات، خاصة مع حالته النفسية الصعبة التي تفاقمت بسبب تسليط وسائل الإعلام الضوء بشكل متكرر على قصته، إذ كان مصمماً على فضح الانتهاكات التي تجري داخل معتقلات النظام السوري، وكان ذلك يحول دون نسيانه ولو جزءاً من الذكريات المؤلمة التي عاشها تحت التعذيب".

 

بشجاعة نادرة، كشف مازن تفاصيل العنف الممنهج داخل المعتقلات، وروى كيف تحوّلت أضلاعه إلى حطام وكيف كافحت روحه للبقاء حيّة في مواجهة الموت.

 

عند وصوله إلى مطار دمشق، تواصل مازن مع شقيقته ليخبرها بأنه تعرض للخداع، معرباً عن نيته العودة على متن أول طائرة، إلا أن الاتصال انقطع سريعاً، وتقول جود "توجهت عمتي إلى المطار للاستفسار عنه، لكن الموظفين نفوا رؤيته، ومن ثم أخذها أحدهم جانباً حيث أخبرها سراً أن فرع المخابرات الجوية قد اعتقله".

 

وبحسب تقارير منظمات دولية عدة، من بينها هيومن رايتس ووتش، ارتكبت حكومة بشار الأسد فظائع، وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات أخرى لا حصر لها خلال رئاسته التي استمرت 24 عاماً، تشمل الاعتقالات التعسفية الواسعة والمنهجية، والتعذيب، والإخفاء القسري، والوفيات أثناء الاحتجاز، واستخدام الأسلحة الكيماوية، واستخدام التجويع كسلاح حرب، والهجمات العشوائية والمتعمدة ضد المدنيين والأعيان المدنية.

 

التقارير أشارت أيضاً إلى مصير عشرات الآلاف الذين قضوا تحت وطأة التعذيب، وفي ظروف احتجاز لا إنسانية، إذ تشير إحصائيات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى أن النظام السوري السابق اعتقل أكثر من 215 ألف شخص، دون الإفصاح عن أماكن احتجازهم أو أسمائهم.

 

وتمكنت فصائل المعارضة المسلحة من الإطاحة ببشار الأسد ونظامه في 8 ديسمبر، مما أنهى أكثر من 50 عاماً من حكم "حزب البعث" في سوريا.

 

وعبر مقطعي فيديو شارك الرجل الذي لا نعرف اسمه، بعضاً من الصور، وهو يقلب الألبوم داخل سياراته قائلاً "شلون كان حاكمنا هاض؟"، قبل أن يغادر "قصر الشعب" ويُطلق العنان لكل صورة على حدة، فتنتشر جميعها في الفضاء الافتراضي مخلفة سيلاً لا ينتهي من التعليقات الساخرة على هيئة ميمز ومنشورات ومقاطع فيديو.

 

رسالة إلى الأسد وسجانيه

 

ووفقاً لشهادة معتقلين أفرج عنهما من السجن، كان مازن يتعرض لتعذيب شديد بهدف إجباره على التراجع عن شهاداته عن جرائم المعتقلات، التي قدمها لوسائل إعلام أوروبية ومحكمة الجنايات الدولية، وتقول جود "مازن قتل تحت التعذيب قبل أسبوع من فتح سجن صيدنايا. الطبيب الشرعي أخبر والدي أن جميع عظامه وضلوعه كانت مكسورة، وكذلك جمجمته، كما وجدت براغ مثبّتة في مواضع مختلفة من جسده".

 

لا تزال عائلة جود تعاني اختفاء 4 من أقاربها، وتقول "جرحنا ينزف منذ 12 عاماً. لم نعرف مصير عمي عبد العزيز، وزوج عمتي صبحي الجاسم، وكذلك أبناء عمتيَّ فهد ومحمد، فحتى بعد فتح المعتقلات من قبل فصائل المعارضة، لم نحصل على أي إجابات. وكأهالي الضحايا، نريد معرفة الحقيقة الكاملة عن مصير أحبائنا".

 

وتشير إلى أنه قبل سقوط النظام في سوريا لم تكن تستطيع أن تفصح عن حزنها على تغييب أقاربها، أو حتى عن علاقتها بهم، خشية أن يتم اعتقالها، وبعد سقوط الأسد، ولحظة معرفتها بموت عمها، كانت ردة فعلها كما تقول "صراخاً وإنكاراً وغضباً"، وتوضح "تساءلت لماذا علينا أن نواجه مثل هذا الموقف الشنيع؟ خاصة أن موت مازن وفتح المعتقلات كانا بفارق أيام، بعدها بدأت أفكر في أقاربي المغيبين، وكأنني كنت أبحث عما هو أقل إيلاماً لي".

 

ووري مازن الثرى، الخميس الماضي، وخلال جنازته، سجّل حدث غير مسبوق منذ حوالي النصف قرن، وفق ما تقوله جود "حيث هتف المشيّعون مطالبين بالقصاص من رموز النظام، هذه الهتافات جزء من تكريم روح مازن وتذكير بحق الشعب في التعبير والمطالبة بالعدالة، وكذلك استعادته الشوارع التي اختطفت منه".

 

وتشير جود إلى أنها شعرت براحة بعد مشاهدة فيديو دفن عمها، قائلة "شعرت أن روحه ارتاحت، ومعرفة مكانه أقل إيلاماً لنا من عدم معرفة مصيره".

 

وإلى سجاني عمها وبشار الأسد، توجهت جود مطالبة بما كان مازن يطالب به، وهو محاكمة الذين تورطوا في تعذيبه والمئات من الآلاف، سواء الذين أطلق سراحهم أو الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً، وتشدد "لا شيء سيردعنا عن القيام بكل ما يلزم لمحاسبة المتورطين، لينالوا العقاب العادل وفق القانون، سواء كانوا داخل سوريا أو هربوا خارجها، هذا هو الشغل الشاغل لكل أهالي الضحايا الذين فقدوا أحبائهم بهذه الطريقة الوحشية".

 

وعقب انتشار الأخبار والفيديوهات المتعلقة بالمعتقلين، وصفت منظمات حقوقية وإنسانية ما حدث بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، مشيرة إلى أن هذه الجرائم لا يمكن أن تمر دون محاسبة المسؤولين عنها.

 

واعتبرت منظمة العفو الدولية في تقرير صدر في 8 ديسمبر، أن "أي تدابير مقترحة لتجاوز هذا الفصل المميت من تاريخ سوريا يجب أن تكون مبنية على مبادئ العدالة، والمساءلة، وعدم التكرار"، شارحة أنه "ينبغي التحقيق مع المشتبه بارتكابهم جرائم مشمولة في القانون الدولي، وغيرها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وإذا اقتضى الأمر، يجب مقاضاتهم على جرائمهم في محاكمات عادلة، لا تتضمّن إمكانية فرض عقوبة الإعدام".

 

وتختم جود مؤكدة أن عمّها "رحل جسداً، لكن صوته لا يزال يصدح في أرجاء العالم، شاهداً على جرائم لا تسقط مهما طال الزمن".


التعليقات