[ مسلسل رسالة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (مواقع التواصل) ]
انتحل فريق مسلسل "رسالة الإمام" شعر حذيفة العرجي، ليكون هذا جزءا من ضجيج يثار حول المسلسل الذي يتناول سيرة الشافعي، إذ يمثل الجدل القائم حول محتوى المسلسل تلاقي مشاكل عديدة في وقت واحد، فالتمثيل مثار جدل فقهي حاد، ويزداد النقاش عندما يتناول التمثيل قضايا دينية، وتاريخية، ويتضاعف عند تناول شخصية كبيرة بوزن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أو شخصية علمية جليلة كالإمام الشافعي قال فيها أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف؟".
ففي الجانب الديني، يعتبر الشافعي من أكثر الأئمة الأربعة جمعا للمواهب المتعددة، فالشافعي إمام محدث فقيه لغوي، وأهلته قدراته العقلية لوضع أصول الفقه، تاركا فيها نقاشات لغوية ما زالت موضع اهتمام الباحثين حتى اليوم، وفوق ذلك فقد تمتع بإدراك للواقع الاجتماعي المعيش، بل الحضاري مما يجعلك تتوقف أمامه عجبا، مع أشعار سارت بها الركبان، وإتقان للرماية، وجودة في الفراسة، وكرم نفس، وسخاء. على أنني لا أجرؤ على انتقاص أي من الأئمة الثلاثة المتبوعين، ولا حتى ممن اندثرت آراؤهم، ومذاهبهم، وما أكثرهم في التاريخ، لكنه تنويه بجوانب عظمة شخصية قدمت بصورة إشكالية.
ومن جانب آخر، ومن منطلق تجربتي في كتابة الرواية التاريخية، فإن التاريخ باعتباره يدون الوقائع البارزة، فإنه يترك فراغات يعمل فيها خيال المؤلف، واجتهاد السيناريست، ويقولبها المخرج في قالب نهائي، يعبر عن القيم المهمة التي يريد إيصالها. لكن المعركة تثور في اضطراب البوصلة، وافتقاد الدقة في بناء القصة، لأن التجميع يؤدي للاضطراب، ومحاولة التغطية تنتهي بكوارث.
وليس المصريون قليلي الخبرة في التأليف التاريخي فهم واضعو لبناته الأولى، ومن ينسى أعمال عبد السلام أمين وجيله حول عمر بن عبد العزيز، والأئمة الأربعة، والقضاء في الإسلام، والأعمال التي تناولت أصحاب الكتب الستة، عدا عن الأنصار، والوعد الحق، وبالإسلام السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالم، هذا عدا عن الأفلام القصيرة التي تناولت السيرة النبوية، وناهيك بالأداء التمثيلي لعدد من المصريين في فيلم الرسالة الشهير، على أنه كان يؤخذ عليها إقحام قصص الحب بصورة فجة في حياة هؤلاء الأعلام، وهو ما كان يزعج المشاهدين، ويدفعهم في كثير من الحالات للنفور منها، لكن مع عظمة الشخصيات ذابت هذه الأشياء في الأذهان، وبقيت المشاهد محفورة.
عودة الدراما التاريخية المصرية مع رسالة الإمام كانت غير موفقة، فثمة خلط في وقائع تاريخية عديدة، وثمة إشكالية في العقيدة، ومعركة في تقرير بعض القضايا الفقهية، عدا معركة انتحال أبيات حذيفة العرجي
ولكن التراجع وقع مع عدم التجديد في أساليب الإنتاج، والنظرة للتاريخ، والكتابة التاريخية، والسيناريوات، فكان آخر ما شوهد، وكان جديرا بالاحترام مسلسلا "هارون الرشيد"، و"الفرسان" الذي تناول سيرة سيف الدين قطز، وبعدها بدأ التراجع، والتوقف شبه التام بعد مسلسل "نسر الشرق" الذي تناول بصورة شائهة سيرة صلاح الدين الأيوبي، حيث أعقبه مسلسلان سوريان مميزان، وحسبك بالثنائي وليد سيف، وحاتم علي، ثم كان الختام بكارثة مسلسل "الظاهر بيبرس"، الذي زامله مسلسل "الظاهر بيبرس الشامي" بإخراج محمد عزيزية، وتمثيل عابد فهد، وباسل خياط، فانتقد المصريون مسلسلهم بجرأة تحسب لهم، وتوقفت الدراما المصرية التاريخية بعد ذلك.
ولكن عودة الدراما التاريخية المصرية مع "رسالة الإمام" كانت غير موفقة، فثمة خلط في وقائع تاريخية عديدة، وثمة إشكالية في العقيدة، ومعركة في تقرير بعض القضايا الفقهية، عدا معركة انتحال أبيات حذيفة العرجي السوري، وربما كان ذلك سببا في شهرته، أكثر مما أمل وظن، والأرزاق بيد الرزاق سبحانه.
وسأبدأ بذكر بعض ما أشار له بعض طلاب العلم في ما يتصل بمحنة خلق القرآن، فالشافعي في الأصل لم يلقَ المأمون، ولم يعاصر المحنة التي بدأت بعد موته بعقدين، وكان المأمون حتى عام اللقاء الوارد في المسلسل لا يزال يسمي نفسه الإمام في خراسان منازعا لأخيه، أما محنة الشافعي فكانت مع الرشيد، إذ اتُّهم بممالأته لثوار في اليمن. والثابت أن الشافعي ناظر حفص الفرد المعتزلي في مصر حول خلق القرآن، مناظرة حادة أفحم فيها حفص الفرد، وكانت تتعلق بالموضوع ذاته، كما أن النقاش الوارد في المسلسل استخدم مصطلحات استقرت عليها المدرسة الأشعرية السنية بعد الشافعي بقرن ويزيد، وربما كان السبب في البلبلة كون حملة لواء الأشعرية هم الشافعية، والمالكية في الأغلب، ولا يسمح تاريخ الأفكار بتصور أن أهل السنة صاغوا مصطلحات كلامية في القرن الثاني، والثالث الهجري، إذ لا تشير مراجعهم لمثل هذا النمط، بل كانت تشير دائما للاكتفاء بما ورد في الكتاب والسنة.
زيارة الشافعي لدير قبطي، كعنوان للوحدة الوطنية -كما دأبت كافة الأعمال التاريخية العربية على تناول التنوع الديني والتسامح على أنه سمة غالبة- واقعة لا تثبت ولا تجوز شرعا. صحيح أن المسلمين قصدوا اليهود والنصارى للتطبب، لكن الشافعي كان عالما بالطب ومارسه، وكان قادرا على تطبيب زوجته
أما فقهيا، فإن شافعي المسلسل ومن ورائه المخرج والسيناريست، ينسون الجهر بالبسملة، علما بأنها مسألة شهيرة في المذهب، حتى أن ابن كثير -المفسر الشافعي الشهير- ذكر أن كل من يقول بهذا القول يستحق إدراجه في طبقات الشافعية. وأشد من ذلك، أن استدلال الشافعي -في المسلسل طبعا- بحديث نبوي، ووصفه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه جده، مغالطة لا يقع فيها من له معرفة بسيطة بنسب الشافعي.
أما مشكلة زيارة الشافعي لدير قبطي، كعنوان للوحدة الوطنية كما دأبت كافة الأعمال التاريخية العربية على تناول التنوع الديني والتسامح على أنه سمة غالبة، فالحقيقة أن الواقعة لا تثبت، ولا تجوز شرعا. فصحيح أن المسلمين قصدوا اليهود والنصارى للتطبب، لكن الشافعي كان عالما بالطب ومارسه، وكان قادرا على تطبيب زوجته، وكلمة الفقهاء متفقة على حرمة أن تنكشف المرأة المسلمة أمام الطبيب المسلم ما دامت هناك طبيبة مسلمة، وصحيح أن المسلمين كانوا يقصدون أديرة النصارى للتداوي الطبي، وهذا وارد في تراجم كثير من العلماء، لكن الوحدة الوطنية ليست مفتقرة لهذه اللقطة لتتعزز، ففي مصر لطالما عاش المسلمون والأقباط متجاورين بغير حساسيات، وفي تآلف عام، عدا ما يحدث من وقائع ذات طابع مؤقت، وفي أوقات أزمات عامة يغدو فيها الذهن الفردي والجمعي مشوشا.
والحقيقة أن المسلسلات العربية السورية والمصرية أساءت للأقليات المسيحية بقصر دورها على التجارة والحرف اليدوية والطب والصيرفة، وهي حرف برعوا فيها، لكن حصرهم في المسلسلات والأعمال الدرامية فيها تنميط مبالغ فيه، وأمر غير مستساغ، لا يتسق في الحالة المصرية مع أعمال مكرم عبيد على أقل تقدير، هذا عدا عن غيره من رجال الأقباط وإسهامهم القديم في الحياة العامة منذ كانوا كتابا في الدولة الأموية حتى اليوم.
رحم الله الشافعي، ويكفيه فخرا أن تلاميذه نخبة المفسرين والمحدثين والفقهاء والقضاة في تاريخ الأمة، وأن مذهبه طبق الأرض شرقا وغربا، وحمل الإسلام معه إلى بقاع عديدة، فلا يضره مسلسل.. طالت حلقاته أو قلّت.