[ ترفع الناقلة CRIUS علم بنما ونقلت النفط الروسي للأسواق الآسيوية (Getty) ]
تتوسع أعمال سوق النفط الخاضع للعقوبات والتي ضمت روسيا حديثاً ومن قبلها إيران وفنزويلا، عبر ناقلات قديمة لا تعمل إلا مع هذه الدول التي تمنحها أرباحاً تستمر حتى انتهاء عمر سفن يصفها المتخصصون بـ"الأسطول الرمادي".
- يلخص كبير المحللين بصندوق الأمن الطاقي في موسكو، إيغور يوشكوف، جوهر مفهوم "الأسطول الرمادي" في أنه اتحاد ملاك سفن مستعدين لنقل النفط الخاضع للعقوبات، سواء أكان روسياً أو إيرانياً أو فنزويلياً، مشيراً إلى أنه يدرّ أرباحاً طائلة على مشغليه.
يقول يوشكوف في حديث لـ"العربي الجديد": "تتجاهل ناقلات الأسطول الرمادي العقوبات الأميركية والأوروبية وسقف الأسعار الذي فرضته مجموعة الدول السبع على النفط الروسي والمحدد بـ 60 دولاراً، وبالمفهوم الواسع، يضم الأسطول الرمادي كل المستعدين لنقل أي نفط خاضع للعقوبات مثل النفط الإيراني والفنزويلي سواء كان مفروضا عليه حظر أميركي كامل أو جزئي".
واشترت روسيا في العام الماضي وحده 240 ناقلة كانت تقوم سابقاً بتصدير النفطين الإيراني والفنزويلي، بحسب بيانات شركة "برايمر" البريطانية للتحليل والاستثمار في النقل البحري. ويتكون "الأسطول الرمادي" من سفن من فئتي "أفراماكس" و"باناماكس" القادرة على تنفيذ نحو أربع رحلات سنويا بين الموانئ الروسية على البحرين الأسود والبلطيق من جانب، ومجمعات استقبال النفط في الصين والهند.
وعلى الرغم من الحظر الغربي على النفط الروسي المنقول بحراً، إلا أن الصادرات عبر الناقلات، وبصفة خاصة إلى الصين والهند، ارتفعت في أبريل/نيسان الماضي، بمقدار 74 ألف برميل حتى بلغت 3.73 ملايين برميل يومياً، وفق بيانات شركة "كبلير" العالمية المختصة في تحليل بيانات التسويق التجاري.
أرباح طائلة للمشغلين
"في أغلب الأحيان، يتم تسجيل الناقلات عبر شركات في ملاذات "أوفشور" تخضع لقوانين وتنظيمات مختلفة، منها إخفاء بيانات المساهمين، وتبحر الناقلات تحت أعلام مختلفة، ولا تملك حسابات في مصارف أميركية أو أصولاً في الولايات المتحدة، ولا تجري أي معاملات بالدولار واليورو، وهي بذلك لا تخشى من فرض عقوبات مثل تجميد ممتلكاتها أو أرصدتها في الدول الغربية ومنع ملاك الشركات من الدخول إليها" كما يشرح كبير المحللين يوشكوف.
وحول دوافع رجال الأعمال لدخول سوق نقل النفط الخاضع للعقوبات، يتابع: "لا ينقل هذا الأسطول المكون من ناقلات قديمة سوى النفط الخاضع للعقوبات، إذ أدرك ملاكها أن هذه سوق ضخمة ذات قيمة مضافة وأسعار نقل مرتفعة يمكن العمل فيها حتى انتهاء العمر الافتراضي للناقلات. أضف إلى ذلك أن تغيير جغرافيا نقل النفط زاد من طول طرق السفن ومن ثم أرباح الشركات المالكة للناقلات".
ويلفت إلى فاعلية الأسطول الرمادي في نقل النفط، قائلاً: "لم تسجل روسيا تراجعاً في تصدير النفط ومشتقاته، بل حولت كمياتها بشكل كامل إلى السوق الآسيوية. صحيح أن الأسعار تراجعت، ولكن هذا الأمر لا علاقة له بالناقلات. الأسطول الرمادي كاف لنقل النفط الروسي".
ويخلص إلى أن سوق الناقلات العالمية انقسمت إلى قسمين، قسم ينقل النفط الدولي مثل النفط الأميركي أو السعودي، والثاني غير الملتزم بالعقوبات الذي ينقل النفط الروسي والفنزويلي والإيراني.
وتزداد الإمكانيات التصديرية لـ"الأسطول الرمادي" شهرياً بمقدار 150 - 200 ألف برميل يومياً، وقدر عددها بنحو 100 ناقلة عند ورود أول الأنباء عن تشكيل الأسطول الرمادي في بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بحسب تقديرات محللي شركة "بي كا إس عالم الاستثمار" الروسية المعنية بالتداول في بورصة موسكو.
تغيير معادلة تحديد السعر
يلفت الخبير بالمعهد المالي التابع للحكومة الروسية (من أقدم المؤسسات التعليمية)، ستانيسلاف ميتراخوفيتش، إلى أن "الأسطول الرمادي" ليس الوسيلة الوحيدة للالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة على النفط الروسي، ضاربا أمثلة على حيل أخرى مثل استبعاد تكاليف التأمين والشحن من العقود لعدم تجاوز سقف الأسعار.
يقول ميتراخوفيتش في حديث لـ"العربي الجديد": "تؤكد كل المؤشرات على وجود "الأسطول الرمادي"، ولكن على الرغم من تسمية كهذه، إلا أن ناقلاته تمر عبر قناة السويس لنقل نحو 90 في المائة من صادرات النفط الخام الروسي المتجهة إلى الصين والهند. تعوض هاتان السوقان الصاعدتان لبلدين يقارب عدد سكانهما 3 مليارات نسمة، خسارة السوق الأوروبية التي تعاني دولها من الركود وعقبات أخرى أمام زيادة استيرادات النفط مثل الأجندة الخضراء".
ويضرب مثل آخر على كيفية الالتفاف على السقف المحدد للنفط الروسي، مضيفاً: "هناك نظامان لعقود النفط أولهما "سيف"، وهو أنسب للمشتري كونه يشمل رسوم التأمين والشحن، ولكنه يمكن أيضاً التعاقد بنظام "فوب" الذي يشمل ثمن البضاعة فقط".
ونظام التكلفة والتأمين والشحن (Cost, Insurance and Freight - CIF) هو نظام تعاقد يشمل ثمن البضاعة وقيمة التأمين عليها وأجرة السفينة والشحن، ويقابله نظام التسليم على ظهر السفينة (Free on Board - FOB)، وهو مصطلح تجاري في قانون التجارة البحرية يستخدم للإشارة إلى تحول الالتزامات والتكاليف والمخاطر من البائع إلى المشتري بمجرد تحميل البضائع على الباخرة.
وبحسب تقرير صدر عن المصرف المركزي الروسي في فبراير/ شباط الماضي، فإن مقارنة الأسعار الحالية للنفط الروسي مع سابقاتها غير دقيقة في ظل تأثير القيود والتغييرات في اللوجستيات على أسعار نقل النفط الروسي وتأمينه، مما أدى إلى انخفاض سعر النفط الروسي 40 دولاراً لكل برميل مقارنة مع النفط برنت بنظام "فوب"، ولكن الفارق الفعلي في موانئ الوصول في الهند يبلغ نحو 15 - 20 دولاراً ويبلغ سعر نفط برنت حالياً 76.08 دولاراً للبرميل.
تواطؤ المشترين
يجزم مدير صندوق تنمية الطاقة (شركة غير حكومية) في موسكو، سيرغي بيكين، بأن المتعاقدين على شراء النفط الروسي يعلمون جيداً منشأه، ويقبلون بذلك بعد أن تبين أنه لا مجال عن الاستغناء عن النفط القادم من روسيا التي يفوق إنتاجه وإمداده النفط الإيراني بأضعاف كثيرة.
ويقول بيكين المتعاون أيضاً مع منصة "بابليكو" لتبادل آراء الخبراء، في حديث لـ"العربي الجديد": "السمة الرئيسية لناقلات الأسطول الرمادي هي انعدام هوية واضحة لها ومسجلة باسم شركات يمكن تغيير شخصياتها الاعتبارية بسهولة، مما يحميها من تعرض لعقوبات، وأتاح لروسيا إنماء إمداداتها من النفط إلى الهند بمقدار عشرات الأضعاف والالتفاف على سقف الأسعار على النفط الروسي".
ويلفت بيكين إلى أن الالتفاف على العقوبات يتم بعلم المشترين، مضيفاً: "يعلم المشتري دائماً مع من يتعامل، وحتى الولايات المتحدة نفسها تدرك أن سقف الأسعار يتم تجاوزه في أحيان كثيرة".
إلا أن مسؤول الطاقة بمعهد الطاقة والمال (مستقل معني بالتحليل الاقتصادي)، أليكسي غروموف، يعتبر أن الدول الغربية قادرة، إن أرادت، على الوصول إلى الملاك والمستفيدين النهائيين من هذه الشركات المسجلة خارج روسيا، ولكنهم يغضون الطرف عنها.
ويقول غروموف الذي يحمل درجة الدكتوراه في الجغرافيا ويتعاون هو الآخر مع منصة "بابليكو"، في حديث لـ"العربي الجديد": "الشركات المشغلة لـ"الأسطول الرمادي" لا يمكن تصنيفها على أنها غير قانونية بالمعنى الحرفي للكلمة، كما أنها لا تخالف الحظر الأوروبي على النفط الروسي، وحتى باعتراف أميركي، لا يحدث تجاوز لسقف سعر النفط الروسي إلا نادراً، ولا يمكن مثلاً مساواة ذلك بأي حال من الأحوال بتهريب المخدرات".
خلط أم إعادة التصدير؟
يشير الخبير الصناعي والاقتصادي المستقل الذي سبق له العمل محللاً بعدة مؤسسات روسية، ليونيد خازانوف، إلى أساليب أخرى من شأنها إخراج النفط الروسي من تحت طائلة العقوبات، ومنها خلط النفط الروسي بغيره وإخفاء ناقلات "الأسطول الرمادي" عن الرادرات.
ويقول خازانوف الذي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، في حديث لـ"العربي الجديد": "مهمة الأسطول الرمادي هي ضمان إمدادات نفط مستقرة من روسيا إلى الدول الأجنبية، وفي مقدمتها الصين والهند، فضلاً عن إخراجه من تحت مفعول سقف الأسعار الذي وضعته الدول الأعضاء في مجموعة الدول السبع وحلفاؤها".
وحول آلية شحن النفط إلى ناقلات الأسطول الرمادي، يضيف: "الناقلات التابعة للأسطول الرمادي قد تختفي بين الحين والآخر من نظم الرقابة على السلامة الملاحية من أجل تعبئتها بالنفط الروسي وإيصاله إلى وجهته على أنه خام قادم من دولة أخرى تماماً. وفي أحيان كثيرة، يتم خلط النفط الروسي بغيره".
ويقر غروموف هو الآخر باعتماد مثل هذه الآلية لتغيير منشأ النفط وتجنب سقف الأسعار، مضيفاً: "يمكن للناقلات "الاختفاء" لبعض الوقت لشحن النفط الروسي من ناقلة إلى أخرى وإخراجه من تحت مفعول سقف الأسعار، ولكن تسمية ذلك بالخلط غير دقيقة، بل هذا أقرب إلى إعادة تصدير".
مخاوف على البيئة
في الوقت الذي حذرت فيه شركة "غارد"، المعنية بالتأمين على الناقلات في إبريل الماضي من المخاطر البيئية في حال وقوع تسرب للنفط من الناقلات المتهالكة التابعة لـ"الأسطول الرمادي"، يقلل خازانوف من أهمية هذه المزاعم، معتبراً أن ملاك السفن ستتم مساءلتهم عن أي حادثة بيئية بصرف النظر عن طبيعة تسجيل سفنهم.
ويعلق الخبير الروسي على هذه المزاعم، مضيفاً: "تختلف أعمار الناقلات المستخدمة لنقل النفط الروسي وقد يكون بعضها قريباً من انتهاء عمرها الافتراضي. ومع ذلك، لا يمكن تصنيفها على أنها خطرة على البيئة، لأن ملاكها سيواجهون مشكلات مع القانون أينما ووقتما تقع حادثة".
ومنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، حظرت الدول الغربية على السفن الروسية الدخول إلى موانئها، بالإضافة إلى الحظر على التأمين على السفن الناقلة للنفط الروسي في حال تجاوز سعر النفط الذي تنقله 60 دولارا.
تشير تقديرات "بي كا إس عالم الاستثمار" إلى أن حصة الصين والهند في صادرات النفط الروسي أكثر من 80 في المائة، إلا أن غروموف يعتبر أن الحصة الفعلية للصين والهند في صادرات النفط قد تكون حتى أعلى من ذلك، وتصل إلى 87 أو 88 في المائة.
وبحسب تقديرات سابقة أدلى بها نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، فإن إمدادات النفط الروسي إلى الهند ازدادت بمقدار 22 ضعفا في العام الماضي.
ويقول غروموف في حديث لـ"العربي الجديد": "تكاد هذه النسبة تغطي بشكل كامل خسارة السوق الأوروبية من جهة الكميات، ولكنها لا تعوضها من جهة القيمة المالية نظرا لتراجع أسعار النفط العالمية مقارنة مع العام الماضي. أضف إلى ذلك بعض المشكلات الناجمة عن الانتقال إلى الحسابات بالعملات الوطنية، نظرا لتراكم أرصدة بالروبية الهندية للمصدرين الروس بالمصارف الهندية، ولذلك تقرر مؤخرا الانتقال إلى الحسابات باليوان الصيني حتى مع الهند".
ويلفت إلى فارق جوهري في التجارة باليوان والروبية بالنسبة إلى روسيا، مضيفا: "في التجارة الدولية، لا تتسلم الأطراف الأموال في حقائب، وإنما تودع في حسابات المراسلة، وتبقى فعليا داخل الدولة المصدرة لعملة التعاقد. في حالة الصين، تستخدم روسيا هذه الأرصدة باليوان لشراء السلع الغربية المحظور توريدها إلى روسيا والتكنولوجيا من السوق الصينية، ولكنها لا تحتاج إلى شراء مثل هذه الكمية من السلع من الهند".