بالحِكم والأمثال.. ما الذي يدونه اليمنيون على زجاجات وسائل النقل والمواصلات في اليمن؟
- السفير العربي الخميس, 05 ديسمبر, 2024 - 04:14 مساءً
بالحِكم والأمثال.. ما الذي يدونه اليمنيون على زجاجات وسائل النقل والمواصلات في اليمن؟

لا شك في أن من أهم أسباب التحوّل في تدوين العبارات الحِكَمية، ومعارضتها بالنقيض من دلالتها المعتادة، ما يعود إلى المدى الذي وصلت إليه قسوة الواقع وسطوته وشراسته، حد أن تتهشّم به كل فكرة حِكَمية، وتتلاشى به كل نصيحة شائعة.

 

لم يحظَ اليمنيون بَعْدُ برؤية سكك حديدية، أو مواصلات عامة تابعة للدولة في بلدهم المنهك بالصراعات والحروب، إذ لا يزال هذا الأمر مقصوراً على ما يشاهدونه في أفلام السينما والمسلسلات العربية والأجنبية.

 

أمّا كيف يتدبرون أمر تنقلاتهم، فليس أمامهم سوى وسائل النقل والمواصلات، التي يملكها مواطنون عاديّون: (سيارات/ مايكروباصات/ مركبات متنوعة). ويتخذ بعضهم من العمل سائقاً على هذه الوسائل مصدر رزق لإعالة أسرته، سواء أكان هو من يملكها، أو كان عاملًا عليها بأجر يستلمه من مالكها. كما تظهر في هذه الوسائل صورٌ من العلاقات والتفاعلات العامة، لا سيما ما يتعلق منها بنوعٍ من المعاني والإشارات، التي تحيل عليها عباراتٌ يتم تدوينها بخطوط جميلة، على الخلفيات والمساحات الزجاجية، من هذه الوسائل.

 

زينةٌ ومعنى

 

منذ أن حلّت وسائل النقل والمواصلات الحديثة محل الوسائل التقليدية في اليمن، بدأ هذا النوع من التدوين. لكنه لم يكن على هذا النحو من الشيوع والانتشار الذي يحظى به اليوم. لا سيما بعد أن صار من عوامل نجاح أيّ محلٍّ من محلات "زينة السيارات"، أن يكون من بين العاملين فيه خطاطٌ ماهر، تُوْكَلُ إليه مهمة تلبية رغبات السائقين، في تدوين عبارات محددة، على زجاج سياراتهم ومراكبهم. وأغلب هذه العبارات شائعة وجاهزة، وهو حالها في اليمن كما في سائر بلدان المنطقة، يقترحها الخطاط على الزبون، ومنها ما يصوغها السائق بنفسه. وبذلك تتنوع أشكال هذه العبارات، بتنوع ثقافة السائقين. فقد تأتيعلى شكل مقولات حكمية شائعة، أو أمثالاً شعبية. أو نصائح، أو أدعية. كما قد تأتي عبارات مدح، وذم، وغزل... وغير ذلك، مما يجد فيه كل سائق تعبيراً عن حال يعيشها، أو مزاج يؤرقه، أو فكرة تدور في خاطره.

 

عبارات الحكمة وتحوّلاتها

 

في بدايات ظهور هذا النوع من الكتابة، كان يغلب عليه أن يكون أبياتاً شعرية مشهورة، أو عباراتٍ حكمية، أو مقولات شعبية. منها ما يتضمن تكثيفاً لتجربة مُرّة، انصدم بها صاحبها، بعد أن قدّم معروفاً لآخر، فقابله بالجحود والنكران والإساءة. من مثل هذه العبارة، التي وردت فيها قيمة "المروءة"، بصيغتها المحكية: "ما حدْ يسوّي جميلْ مع عديم المُروَّة". ومثلها، هذا البيت الشعري، الذي يحيل على مواقف، ينهزم فيها النبلاء على يد أشخاصٍ لا يساوون مقامهم:

 

ومع مرور الزمن، حدث تطور متلاحق في مضامين هذه العبارات، من مثل ما حدث في سياقها الحِكَمي، من استحداثٍ لنماذج، تحمل إرشادات إلى نسقٍ من السلوكيات الإيجابية، كالتبصر في الأمور قبل الحكم عليها، من مثل: "من لم تر منّهْ سوْءْ لا تصدقْ كلام الناس عنه"، و"لا تغركْ البداياتْ حتى إبليسْ كانْ مؤمنْ". وذلك، لأن التسرع في الحكم، وعدم التريث فيه، يفضي إلى مضمون هذه العبارة الحكمية: "الغلطْ لحظة .. والندمْ سنين".

 

ثم حدثت نقلة نوعية في مضامين العبارات الحكمية، إذ انتشرت عبارات، ذات دلالات تحفيزية، بما تتضمنه من إرشاداتٍ هادفة إلى تطوير الذات والارتقاء بها، منها: "إن أردت أن تعيش حياة سعيدة فاربطها بهدف وليس بأشخاص". و"كافح من أجل حياة لا تعتمد فيها على أحد". ومثل ذلك هي العبارة: "لا تتراجع أبدًا .. النجاح العظيم يستغرق وقتًا ..!". ولعل من أهم العوامل في إحداث هذه النقلة في مضامين العبارات الحكمية، هو ما ظهر من مفاهيم التطوير، التي تتردد في أدبيّات وفعاليات التنمية البشرية.

 

وتأتي في سياق هذا التحوّل، أحدثُ نقلةٍ دلالية في مضامين العبارات الحِكَمية، تلك المتمثّلة في ما انتشر من عبارات معارضة ومشاكسة لها. من مثل: "قولوا للرياح تأتي كما تشاء .. خلاص بِعنا السفينة". فنسقُ هذه العبارة معارضٌ لجوهر الحكمة، في الشطر الشعري المشهور: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، الذي يعد واحداً من أبرز تجليات هذا النوع من التدوين.

 

ومثل ذلك، ما يظهر من تحوّل مشاكس في العبارة: "رضاكم غايتنا! هذا تجدونه في شركة الاتصال وليس عندي"، إذ استهدفت المعارضة هنا هذه العبارة: "رضاكم غايتنا"، التي كثيراً ما ترد من شركات خدمة الاتصالات إلى عملائها، وبوجه خاص شركات الاتصالات الخاصة بخدمة الهاتف النقال. كما تتجلّى المعارضة نفسها، في هذه العبارة: "لا تسأل مجرب ولا تسأل حكيم .. خبّص لحالك والله كريم"، إذ تقوم على إفراغ الحكمة المشهورة: "اسأل مجرب ولا تسأل حكيم/ طبيب"، من معناها المتداول، والإحلال محله نقيضه، القائم على الاكتفاء بمحاولات فردية، حتى وإن كانت عشوائية غير مجدية، بحسب ما يحيل على ذلك المعنى في الكلمة المحكية "خَبّص".

 

ولعل أبرز تجسيدٍ لأقصى تحوّل وصلت إليه اللامبالاة بالعبارات الحكمية، هو ما يظهر بغرابةٍ في هذه العبارة العجيبة: "الوقت كالسيف إن لم تكن ذئباً بما تشتهي السفن طلع البدر علينا"، إذ اجتمعت فيها ــ بصورة اعتباطية غير متجانسة ــ عددٌ من الجمل التي تم اجتزاؤها من عبارات حكمية سائدة.

 

ولا شك في أن من أهم أسباب هذا التحوّل في تدوين العبارات الحكمية، ومعارضتها بالنقيض من دلالتها المعتادة، ما يعود بالدرجة الأولى إلى المدى الذي وصلت إليه قسوة الواقع وسطوته وشراسته، حد أن تتهشّم به كل فكرة حكمية، وتتلاشى به كل نصيحة شائعة.

 

إحالات اليأس والتذمر

 

من العبارات التي انتشر تدوينها على زجاج وسائل المواصلات والنقل، ما يتضمّن تكثيف الإحالة على اليأس، الذي يصل إليه (الشخص/ السائق)، فيخرج منه بخلاصة، يدوّنها على حائطه الزجاجي في (باصه/ سيارته/ مركبته).

 

ويغلب على هذا النوع من العبارات، أن تتضمن تذمراً وتبرماً من الوضع المعيش البائس، من مثل معاني اليأس والقنوط في هذه العبارة: "أين بوابة هذا العالم .. أريد الخروج!". والشعور بضياع المستقبل وتضاؤل فرص بِنائه المشرق في هذه العبارات: "يا مستقبلي أنا آسف". و"يا مستقبلي دوّرْتَكْ ما لَقَيْتكْ، رِجِعْتْ اشتَريْتْ ليْ باص". و"جاملتكْ يا وقتْ؛ بسْ شكلكْ عادكْ مُطوّل".

 

تجارب الحب والزواج

 

من أبرز مضامين هذا النوع من التعبير، ما يحيل على تجارب عاطفية أو عائلية، كانتشار عبارات خاصة بتجارب الحب، منها ما يتضمّن معاني السعادة بالحبيب، كما في هذه العبارة: "مكتفي بك". ومنها ما يتضمن معاني الحرمان العاطفي، من مثل: "كل الناس تقع في الحب إلّا أنا أقع في المشاكل". ومنها ما يدلّ على نوعٍ من الشاعرية الوجدانية للوفاء والذكرى، كهذا التعبير: "تغيب الصورة بسْ عُمْر المشاعر ما تغيبْ .. كمْ مِنْ عزيزْ ما تشوفُهْ وهوْ من القلب قريب".

 

وفي سياق ذلك، تأتي عبارات الزواج، التي يحيل بعض منها على سُبل الوصول إليه، كهذه العبارة: "ريال فوق ريال أجيب أمّ العيَال". بينما يحيل بعضٌ آخر ــ وهو الأكثر انتشاراً ــ على تداعيات الزواج، والشكوى من تبعاته والتزاماته. من مثل: "ليتني ما تزوّجت". أو "الزواجْ غلطة حاولْ تغلطْها مع الإنسان الصّحْ .. يعني ما يصْلح غلطة وغباء". إذ يغلب على هذه العبارات أن تلقي اللوم على المرأة وحدها، وتحملها مسؤولية ما تؤول إليه تجربة الزواج من إشكالات ومنغصات، إمّا تعريضاً، كما في العبارات السابقة. وإما تصريحاً، كما في مضمون هذه العبارة: "النساء هن السبب الرئيسي لأمراض القلب .. أمّا التدخين فهو بريءْ من هذه التهمة".

 

ويُلاحظ أن العبارات المحيلة على تجارب الزواج، تكاد أن تكون مقصورة على دلالات المعاناة والشكوى، ولا شيء منها يحيل على السعادة. ويبدو أن وراء ذلك ــ بدرجة رئيسة ــ الوضع الاقتصادي البائس، الذي وصل إليه البلد. وإلى ذلك، فإن الشخص السعيد بهذه التجربة، في الغالب لا يتحمّس للتعبير عنها من خلال هذا النوع من التدوين.

 

نقد الفساد والتعريض به

 

يَشْغل الاتجاه الاجتماعي الخاص بنقد الوضع القائم والتعريض بالفساد، مساحة شاسعة من أمزجة اليمنيين المدونة على الزجاج في وسائل مواصلاتهم وتنقلاتهم. من ذلك، هذه العبارة التي تعيد معضلة استشراء الفساد في الحياة العامة في اليمن إلى نوع من الاختلال في المنظومة الأخلاقية المجتمعية: "كلكم شَريفين أنا داري". إذ تحمل هذه العبارة إشارة إلى أن لا أحد منكم ــ يا من تدّعون النزاهة ــ صادق في ادّعائه. وتعزيزاً لهذه الإشارة المخاتلة، تأتي هذه العبارة: "اللهم احفظْ اليمنْ من اليمنيين"، التي تحيل على أن اليمنيين أنفسهم هم السبب الأول فيما يستشري في بلدهم، من فساد واستحواذ على مقدراته.

 

وفي السياق نفسه، تندرج العبارات التي تتضمّن نقداً وتعريضاً بفشل الاستراتيجيات الوطنية والسياسات الإدارية في المؤسسات الرسمية، من مثل: "نص اليمن محلات صرااااافة والنص الثاني مدارس أهلية!! لا شعب متعلم ولا معانا فلوس". إذ وردت هذه العبارة بصيغتها المحكية، التي يُحذُف فيها حرف "الفاء"، من كلمة "النصف". وقد تعاطت مع قطاعي: "التداول المصرفي"، و"التعليم الأهلي". فكشفت عن المفارقة بين الأرقام العددية المتصاعدة وحقائق الواقع المعيش، المنهك بالفقر والجهل.

 

كذلك، هي عبارات التعريض، بفساد بعض المسؤولين، وبمن يحاول تبرير فسادهم. من مثل هذه العبارة: "هو تمامْ بسْ اللي تحته ..!". بمعنى أن المسؤول المعنيّ نزيهٌ، وأن الفساد آتٍ من معاونيه وبطانته.

 

لقد تكررت هذه العبارة كثيراً في النقاشات العامة، بما تحمله من مخاتلةٍ في تبرير فساد مسؤول ما، إذ لم تقتصر على مستوى معين من مستويات الإدارة والسلطة، بل شملت كافة المستويات والإدارات، بدءاً من أعلى هرم في السلطة السياسية، وامتداداً في شتى الإدارات العامة والفرعية، وانتهاءً بأصغر وحدة إداريّة، وأصغر وجاهة اجتماعية.

 

وبعد أن وصلت هذه العبارة إلى هذا المستوى من الانتشار التبريري، حدث فيها تحوّلٌ دلالي إلى الضد من معناها المباشر، إذ صار ترديدها نسقاً من أنساق تأكيد فساد الشخص الذي يُحاول بعضهم تبرير فساده. وبهذا المعنى والتأكيد المُخاتِل، يأتي انتشارها على زجاج المركبات والسيارات في اليمن.

 

فكاهة وسخرية

 

تنحو سياقات الدلالة في بعضٍ من هذه العبارات منحى الفكاهة والسخرية، لا سيما في بعض من العبارات التي تُعرّض بمنظومة الفساد وآثاراها. كهذه العبارة الساخرة من فساد إدارة صيانة الطرقات: "حياتنا مثل شوارعنا تهرب من مطَب تنكَع في حُفرة". إذ تحيل هذه السخرية على ازدواجية المعاناة، معاناة مشكلات الحياة المعيشة ــ التي لا تنتهي مشكلة منها إلّا بأخرى أشد منها - ومعاناة السائق كُتلَ الإسفلت المنتفخة في الشوارع العامة، فلا يفضي به الهروب من واحدة منها إلّا إلى الوقوع في واحدةٍ من الحفر المنتشرة في مساحاتِ تَمزّقِ الطبقات الإسفلتية واهترائها.

 

وفي السياق الفكاهي نفسه، تأتي العبارة: "إذا رأيت كل شيء جميلْ فاعلم أنك سكران"، بما تحمله من إحالة على أنّه لم يعد في الواقع ما يمكن توصيفه بالجميل. كذلك هي العبارة: "بكرة الركوب مجاناً!!" بما هي عليه من تسويف مخاتل، يتجدد باطرادٍ كل يوم.

 

سمات وخصائص مشتركة

 

يمثّل التعدد والتنوع واحدةً من أهم سمات هذه العبارات المُدونة على زجاج وسائل النقل والمواصلات. فهي تحيل على أوضاع مختلفة ومتداخلة من أمزجة اليمنيين، حد استحالة التعريج على كل نوعٍ منها.

 

وعلى ذلك، فإن من أهم الخصائص التي تتشاركها شتى هذه العبارات، أنها تُمثِّل تعبيراً عفوياً شعبياً بسيطاً، عن كثير من تفاصيل الحياة في اليمن، بما فيها من إشكالات وهموم، وأمنيات ذابلة، وأحلام وطموحات متعثرة، وإحباطات وإخفاقات متناسلة، وعلاقات فاشلة، ورسائل ذات إشارات خاصة موجهة إلى شخص معين، قد يكون صديقاً أو عدوّاً أو حبيباً، وتمائم وتعويذات للنجاة من شرور مجهولة، في صدارتها الخوف من الإصابة بالعين. وغير ذلك، من مظاهر المزاج الشعبي وتجلياته، وصوره القولية التي يتداولها الناس في نقاشاتهم العامة، وتفاصيل حياتهم اليومية.


التعليقات