[ يستمرّ الشحّ في المساعدات إلى اليمن - Getty ]
عبّرت المنظمات الدولية عن قلقها بشأن الوضع الإنساني في اليمن وتأثره بمعركة الحديدة على الساحل الغربي، وعلى الرغم من كل هذا القلق الإنساني، إلا أنه لم يحل دون إعلان مركز غسيل الكلى في مديرية باجل التابعة للحديدة أنه "سيتوقف عن العمل خلال أيام نتيجة نفاد كميات محاليل الغسيل"، التي توفرها تبرعات "فاعلي خير" لا المنظمات الدولية. ويظهر هنا التناقض بين تعبير المنظمات عن القلق في أوقات محددة مرتبطة بالتصعيد العسكري تجاه الحديدة، في وقتٍ يموت فيه الناس تحت نظرها على الدوام.
بدورها، عبّرت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، ليز غراندي، يوم الجمعة الماضي، عن قلقها أيضاً من معركة الحديدة، وقالت إن "هناك قرابة 250 ألف مدني قد يفقدون كل شيء بما فيه حياتهم". وكان مسؤول آخر في المنسقية، قد أكد بقاء الموظفين الأمميين في المناطق الخمس النشطة (صعدة، والحديدة، وصنعاء، وإب، وعدن) وجميعها عدا عدن تقع تحت سيطرة الحوثيين، وثلاث منها تشهد مواجهات عسكرية نشطة حالياً (جبهة نهم في صنعاء، وجبهات الحديدة وتعز).
مع العلم أن الحديدة تستقبل قرابة 70 في المائة من المواد الغذائية الداخلة إلى اليمن بما فيها المساعدات الإنسانية. وكان إجمالي ما استقبلته خلال الربع الأول من العام الحالي يصل إلى ضعف ما دخل اليمن من هذه المواد عبر مينائي عدن والمكلا، وعبر المنافذ البرية اليمنية الأخرى. لكن هذا لم يمنع توسع المآسي الحقيقية والمجاعة في تهامة، أعلى مناطق اليمن في معدلات الفقر.
وخلال الأشهر الماضية، تعرضت مخازن برنامج الغذاء العالمي لحريقين متتاليين في مستودعات التفريغ التي تحتوي المساعدات الإنسانية. واعترى نشاط برنامج الغذاء العالمي في توزيع المساعدات للمستحقين فساد كبير، تحديداً في تعز ومناطق سيطرة الحوثيين.
ولم تعبّر المنظمات الدولية عن قلقها بشأن سرقة حقوق الفقراء اليمنيين، لأن ذلك يضعها في موقف التشكيك بمدى نزاهة وشفافية آلياتها للعمل في اليمن، وخصوصاً أن عدداً من المنظمات قام بإرساء مناقصات بالتكليف المباشر من دون اتباع الآليات الدولية للشفافية والنزاهة.
وحدثت عمليات إجلاء لعاملين دوليين في اليمن قبل قرابة أسبوع، وأعلن الصليب الأحمر الدولي للمرة الأولى منذ بدء عمله في اليمن عام 1962 عن إجلاء 71 موظفاً يعملون معه لتلقيهم تهديدات مستمرة كما قال في بيان يوم الخميس. وكان أحد موظفيه من الجنسية اللبنانية قد قتل في تعز قبل أشهر، لكن الصليب الأحمر الذي أجلى موظفيه إلى جيبوتي مؤقتاً، لا يزال يحتفظ بـ450 موظفاً داخل اليمن منهم أجانب. إلا أن تزامن إعلانه هذا مع تنشيط جبهة الساحل الغربي باتجاه الحديدة لا يخلو من دلالات أهمها أن المعركة آتية رغم كل ما يحيطها من سجال.
مع العلم أنه في بداية تدخل التحالف عسكرياً في اليمن، قامت طائراته بقصف ميناء الحديدة وتحطيم الرافعات الخاصة بتفريغ شحنات السفن.
ولمدة عام كامل، رفض التحالف السماح للوكالة الأميركية للتنمية بإدخال 4 رافعات للميناء لتعويض ما تم تدميره، لتقبع في ميناء دبي على مدار عام كامل قبل أن يسمح التحالف بتركيبها من جديد أواخر العام الماضي. وكأن الإدارة الأميركية التي تتبعها الوكالة، عاجزة فعلاً عن توجيه التحالف بتركيب تلك الرافعات. ويمكن تفسير ذلك بأن له علاقة بترتيبات معركة الحديدة ذاتها، منذ ذلك التاريخ.
وقد طالبت السعودية بإدارة أممية لميناء الحديدة في مارس/آذار 2017، لتجنيب الميناء معركة عسكرية ثقيلة الأعباء إنسانياً، وقامت بتجديد طلبها في إبريل/نيسان الماضي، إلا أن المنظمة رفضت تلك المطالب، وكأنها تضغط باتجاه الحل العسكري، خصوصاً مع اتهام الرياض للحوثيين بتهريب الصواريخ البالستية التي يطلقها الحوثيون على أراضي المملكة بين وقت وآخر، مع تصعيد وتيرة القصف منذ أواخر العام الماضي، وإعلان صالح الصماد رئيس المجلس السياسي الأعلى الذي قتله التحالف في إبريل الماضي، أن "العام 2018 هو عام الباليستي"، أي عام تكثيف القصف على السعودية.
لكن الرياض لا تتمتع بدرجة مقبولة من الحساسية تجاه الإنسان اليمني، فقد قصفت الميناء فعلا قبل أن تعرض على الأمم المتحدة إدارته.
وبعد عرضها وقبله، قتلت طائراتها وطائرات أبوظبي مئات اليمنيين المدنيين. لكن مخاوفها دائماً من ردة الفعل الدولية هي ما يحجّم تهورها في اليمن، فتبحث عن مبررات لذلك التهور الذي يصل أحياناً لحد الجريمة، كقولها إن الحديدة ميناء لتهريب السلاح للحوثيين، مع أن المعلوم يحسب تقرير لجنة العقوبات الأممية الصادر في يناير/كانون الثاني الماضي، أن طريق تهريب تلك الأسلحة والصواريخ على أجزاء يعاد تركيبها في الداخل، يمر غالباً عبر مياه البحر العربي جنوباً إلى موانئ صغيرة في شواطئ حضرموت والمهرة وشبوة، وقد يأتي عبر الأراضي العمانية وإن بدون موافقة سلطاتها، ويتم تهريبه عبر طرق برية متشعبة إلى مناطق الحوثيين، وهذا ينفي رواية التحالف والسعودية باستخدام ميناء الحديدة لتهريب الأسلحة، وبالتالي يسقط ذريعة سعيها للسيطرة عليه.
وكل طرف دولي يخوض طريقاً مختلفاً للتأثير في مجريات الأحداث اليمنية؛ فالأوروبيون خاضوا مفاوضات مستمرة مع طهران منذ فبراير/شباط الماضي بشأن اليمن، ضمن نقاط التفاوض حول الملف النووي، إذ يفترض أن تعمل إيران على إقناع الحوثيين بالانخراط في مفاوضات سلام، مقابل بعض الامتيازات في الملف النووي قبل وبعد انسحاب أميركا منه.
بدورها، روسيا التي رفضت إدانة إيران لخرقها القرارات الأممية بشأن اليمن لناحية حظر تصدير السلاح للحوثيين في بيان أممي اقترحته بريطانيا وأفشله الفيتو الروسي، لم تعد تبدي حماسا كبيراً في اليمن بعد مقتل علي عبد الله صالح نهاية العام الماضي، لكنها بهذه المرونة قد تحتفظ فقط ببعض الأوراق التي يمكن أن تجعلها وسيطاً يرضي الطرفين، أو طرفاً ثالثاً يمكن أن يقع الاختيار عليه لاستلام أسلحة الحوثيين أو الإشراف على ميناء الحديدة حسب تسريبات بشأن تسوية توصل إليها المبعوث الأممي أخيراً ونشرتها وكالة "رويترز".
لكن خلافات روسيا الأخيرة مع بريطانيا قد تجعل هذا الخيار مستبعدا، ما لم يستجد أمر جديد، وخصوصاً أن هناك دوافع وعروضاً خليجية من الإمارات والسعودية لشراء منظومة "إس 400" الروسية الدفاعية.
الموقف الأكثر غموضاً بشأن اليمن ومعركة الحديدة تتخذه فرنسا حتى الآن. وكانت باريس قد اتفقت مع الرياض على تنظيم مؤتمر دعم إنساني لليمن أواخر الشهر الحالي، إلا أن 27 منظمة دولية وجّهت للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة أبدت فيها مخاوفها من حضور السعودية للمؤتمر لأسباب سياسية وليست إنسانية، خصوصاً أن حضور السعودية يأتي في ظل غياب كل أطراف الصراع اليمني عن المؤتمر.
الأمر المؤكد في معركة الحديدة هو أنها جزء من استراتيجية البحار الإماراتية، وفي حال سيطرة التحالف عليها، فستكون ضربة قاصمة للحوثيين. لكن من غير المؤكد أن يترجم ذلك إلى أرباح في جردة حساب الشرعية بحكم تجارب استحواذ أبوظبي على موانئ وسواحل الجنوب التي تم دحر الحوثيين منها سابقاً.
في هذا السياق، تعتمد الدول الكبرى الداعمة للتحالف العسكري بقيادة السعودية على سياسة معلنة واحدة: الاعتراف بالشرعية ودعم جهود التحالف المعلنة لإعادتها في اليمن. لكن كثيرين يرون أن هناك سياسة ثانية غير معلنة تعتمدها الدول الرئيسية حيال اليمن، تنصّ على عدم السماح للتحالف بهزيمة الحوثيين، وربما تكون مرتبطة بالرغبة في استنزاف أموال السعودية والإمارات.
هكذا يفسر البعض رفع واشنطن البطاقة الحمراء في وجه التحالف السعودي والإماراتي في كل مرة يقترب هذا الأخير من احتمال حسم معركة الحديدة. وما يعزز من هذه الفرضية، أي رغبة عواصم غربية رئيسية بعدم إنهاء الحرب، أن مشتريات التحالف من الأسلحة الغربية لم تتوقف رغم ما أثارته من جدل على مستوى تلك الدول، ومعارضة المنظمات الإنسانية فيها لاستمرار تلك المبيعات. بل وتدخل الكونغرس الأميركي والقضاء البريطاني أخيراً بهذا الشأن.
وبعيداً عن ملابسات الموقفين الأميركي والبريطاني تحديداً، فإن المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن مارتن غريفيث الذي غادر صنعاء قبل أيام، قد عبر عن تفاؤله وأكد وجود بوادر مشجعة لعودة أطراف الصراع اليمني إلى طاولة الحوار.
كما عبر عن قلقه من معركة الحديدة وما يمكن أن تحدثه من آثار إنسانية، ومن عرقلة لجهود السلام. لكنه عملياً لم يعلن أية تفاصيل لتلك "المواقف الإيجابية" لإعادة تحريك عملية السلام. وكان الحوثيون قد وضعوا شروطاً تعجيزية لتسليم ميناء الحديدة لإدارة طرف ثالث وسحب قواتهم من المدن، وتسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة لطرف ثالث، أبرزها وقف قصف التحالف وتسليم مرتبات الموظفين المتوقفة منذ 20 شهراً تقريباً.
وكان غريفيث قبل قدومه إلى اليمن قد حصل على دعم أميركي لجهوده، وهذا يتعارض مع ما بدا أنه موافقة أميركية متأخرة على معركة الحديدة، تجاهد الإمارات للحصول عليها منذ أكثر من عام، إذ كانت هناك مؤشرات كثيرة على منحها هذا الضوء بتقدم القوات المدعومة منها وبإسنادها الجوي والبحري إلى تخوم المدينة، وباتت لا تبعد أكثر من 10 كيلومترات عن مطار المدينة.
لكن الأميركيين عادوا وحذروا حليفهم الإماراتي من المضي قدماً في المعركة، وجزموا بأنهم لن يتورطوا في المعركة مباشرة، مع معارضتهم لسياسة هدم البنية التحتية الأساسية. لكن ذلك لم يوقف الموت في الجبهات بأكبر عدد يومي للقتلى من الطرفين بمعدلات لم تشهدها أية جبهة أخرى حتى الآن.