[ الباحث في علم الاجتماع السياسي الدكتور عبدالكريم غانم ]
يقدم الدكتور عبدالكريم غانم الباحث في علم الاجتماع السياسي العديد من الإجابات حول الحراك الثوري، وارتباطه بالأحداث التي شهدها اليمن منذ الثورة الشبابية التي حدثت في اليمن مطلع العام 2011م.
يربط غانم بين تلك الأحداث المتتالية زمنيا والمختلفة في اتجاهاتها ومسارها، بشكل منهجي واستقرائي، ويقدم خلاصة دلالية تشخص الواقع المعقد الذي يعيشه اليمن اليوم، فهو يقف عندها بأسلوب الباحث المتخصص، ويستعرضها بخبرة المتابع الذي كان شاهدا على تلك اللحظات.
البداية كانت من كتابه "دور الشباب في الحراك الثوري السياسي في اليمن"، وهي دراسة سوسيولوجية رصت دور الشباب اليمني خلال الفترة من 2011 إلى 2016، وصدرت عن المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، وتعد اليوم بمثابة مرجع تاريخي استقرائي يوثق لأهم حقبة في اليمن خلال السنوات الأخيرة، والتي لازلنا نعيش تداعياتها وتأثيراتها.
ومن تلك البداية حاور الموقع بوست الدكتور غانم، وطرح عليه العديد من التساؤلات التي تتعلق بما جرى بالأمس القريب، وما يثار اليوم من أسئلة ونقاشات ترتبط بالحدث الأصل، وهو الحراك الثوري في اليمن.
الحوار خرج بالعديد من الإجابات التي قدمها غانم، وهي بحق تستحق أن تكون مرجعية تشخيصية ووصفة تشريحية للحالة اليمنية اليوم، وقراءة ما كان، وما يكون الآن، وما سيكون في المستقبل، ولذلك هذه الإجابات موجهة لصناع القرار، والنخبة الباحثة عن تشخيص سليم، وتشكل نافذة لكل باحث أو منظمة تسعى لأن تطل برأسها على المشهد اليمني.
الدكتور عبدالكريم غانم قدم العديد من المؤلفات المتصلة بعلم الاجتماعي السياسي، ككتاب "الوعي السياسي في المجتمع اليمني 2016، وكذلك العديد من الأبحاث التي نشرها، كـ "القبيلة اليمنية وموقعها وموقفها من الثورة والتغيير السياسي" (2012)؛ "وموجة التطبيع الراهنة مع إسرائيل: قراءة في الدوافع والعوائق والآثار" (2020)؛ و "تأثير الحرب في العنف ضد النساء والفتيات في اليمن" (2021)، وله أيضا إصدارات أدبية، عبارة عن مجموعة قصصية بعنوان: "عندما أكل الرصيف مؤخرة حذائه (2003).
نص الحوار:
*نبدأ من كتابك الذي أصدرته مؤخرا بعنوان " دور الشباب في الحراك الثوري السياسي في اليمن دراسة سوسيولوجية 2011-2016 " عن ماذا يتحدث الكتاب؟ وما مضمونه؟
**يتناول هذا الكتاب دور الشباب في الحَراك الثوري السياسي في اليمن، ومدى ارتباطه بالخيارات العقلانية التي يفترض تطويرها، بناءً على ظهور فرص سياسية وخطابية في السياق الاجتماعي اليمني، تعتمد على حسابات عقلانية لمقدار التكاليف والمخاطر والفوائد المترتبة على قيامه، في ظل تأثير البنى الاجتماعية التقليدية، والمتغيرات الخارجية، ومحدودية الموارد.
*ما أبرز النتائج والاستنتاجات التي توصل لها الدكتور عبد الكريم غانم من هذه الدراسة الميدانية؟
**سأكتفي بعرض نتيجة واحدة من النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة:
ثمة علاقة متدنية بين ازدياد حدة المشكلات الاجتماعية وازدياد الفرص السياسية المواتية لقيام الحراك الثوري.
وقد بلغت أزمات النظام السياسي في اليمن مستوًى مرتفعًا، فتراجعت قدرته على أداء وظائفه التنموية والاستجابة لحاجات المجتمع الأساسية وتوفير فرص العمل للشباب، جراء اتساع نطاق الفساد والمحسوبية وتدنّي المؤسسية في أداء أجهزة الدولة، وما ارتبط بها من تناقضات سياسية، ومحسوبية واستغلال للمال العام، وإضعاف للتعددية السياسية، ما أدى إلى تكتل أحزاب المعارضة، وبروز جماعات سياسية قديمة، وأخرى مطالبة بالاستقلال، وظهور ملامح التفكك بين القادة السياسيين في السلطة.
استفادت الحركة الاجتماعية من تزايد خصوم النظام السياسي، وتوافر موارد إعلامية جديدة، ولا سيما القنوات التلفزيونية الفضائية، التي ساعدت على الحد من احتكار السلطة السياسية للإعلام، وبقيام ثورتي تونس ومصر، توافرت للمعارضة الشعبية الحزبية في اليمن حوافز الانتصار وفرص تحققه، فبادرت إلى إطلاق الحراك الثوري، ودعت إلى إسقاط النظام السياسي، مستفيدة من بضعة أساليب واستراتيجيات انتهجتها الثورات العربية؛ فقد رأى الناشطون والمعارضة السياسية والاجتماعية اليمنية أن تدنّي أداء الدولة في تقديم الرعاية الاجتماعية للمجتمع، وعجزها عن الاستجابة لحاجات السكان التنموية، وحاجات القوى العاملة من فرص العمل، جراء الفساد و"الزبونية السياسية" هي فرص سياسية، لأن الدولة قامت في الأساس من أجل الاستجابة لهذه الحاجات التنموية، وإظهار عجزها عن القيام بذلك يجعلها فاقدة مشروعية وجودها، إضافة إلى أن القادة السياسيين في السلطة، باتجاهاتهم الدكتاتورية، صاروا يميلون إلى جعل العملية الانتخابية تستند - في الغالب - إلى التراتبية التقليدية، والولاءات الاجتماعية والقوة العسكرية والثراء المادي، ولا تضمن توفير فرص تنافسية متساوية بين الأحزاب السياسية، وتؤدي إلى تدنّي المشاركة السياسية للفئات الشعبية، الأمر الذي يُعزز فرص إسقاط النظام السياسي، عبر إضعاف شرعية القادة السياسيين.
وفي الواقع، ترتّب على تردّي أداء الحكومة خلال العقود الماضي تدنّي مستوى التنمية، واتساع نطاق الفقر وعمق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي في معظمها عوائق تحد من استمرار التكتل الاجتماعي وتعيق فاعليته في تحقيق التغيير.
ومن أمثلة ذلك أن استمرار القضية الجنوبية من دون حل ترتب عليه ظهور حراك جنوبي بهوية فرعية، جهوية، ومطالب فئوية لا عامة. وقد حاولت الحركة الاجتماعية أن تصنع من وجود الحراك الجنوبي فرصةً سياسية، من خلال الاستفادة من خصومته للقادة السياسيين في السلطة، وتراجعه الموقت عن رفع مطلب الاستقلال.
إلا أن تلك الاتجاهات كانت - في معظمها - تكتيكية؛ إذ حافظ الحراك الجنوبي على هويته الفرعية الجهوية، ولم يتمسك بالهوية الجماعية والخطاب الجماعي للحركة الاجتماعية إلا فيما ندر.
إن بقاء قضية صعدة من دون حل كان يشير إلى أن أداء الحكومة متدنٍّ، ويتيح فرصًا خطابية تعزز الاستياء من أداء الدولة، ويضيف حليفًا آخر للحركة الاجتماعية. إلا أن هذه القضية التي ارتبطت بسلسلة من الحروب ترتبت عليها ثارات وعداوات، ساهمت في تعميق الانقسام المجتمعي وأدت إلى ظهور حركة اجتماعية متشددة، لها هوية فرعية قائمة على أسس أيديولوجية ماضوية، ذات مطالب فئوية - في معظمها - رأت في الحراك الثوري فرصة للتوسع والانتشار.
كما أن توجهات القادة السياسيين نحو احتكار السلطة، وتهميش الجماعات السياسية والاجتماعية، ومنها أحزاب المعارضة والفئات المتعلمة من الشباب والمرأة، ونشطاء المجتمع المدني أديا إلى توسيع نطاق خصوم النظام السياسي، وتكوّن الهوية الجماعية، ومد الحركة بالجماعات ذات التوجهات التي يمكن وصفها بالمدنية. إلا أن محدودية هذه الفئات وحالة الضعف التي تتسم بها ظلت تُقلل من فرص ترجيح الاتجاهات المدنية على الاتجاهات المرتبطة بأيديولوجيات متطرفة ومطالب فئوية؛ فاستبعاد النظام السياسي منظمات المجتمع المدني وتهميشه لها ساهما في "عزلها عن المجتمع"، كما أنهما أديا إلى تدنّي الاعتماد على أساليب الاتصال السياسي الحديثة، وعزز الميل إلى استخدام الأنساق الاتصالية التقليدية، كعلاقات القرابة والصداقة، والروابط المهنية، والانتماءات السياسية، والأيديولوجية.
وإذا كان ظهور بوادر الانقسام بين القادة السياسيين قد أتاح للمعارضة صناعة فرصة سياسية، تمثلت في الانشقاق الذي ساعد في تحقيق نوع من التوازن بين الجماعات المؤيدة للنظام السياسي والحركة الاجتماعية، وقلل من احتمالات استخدام القمع، فإن تشابه الاتجاهات السياسية والقيم الثقافية للجماعات المنشقة مع القادة السياسيين في السلطة ترتب عليه الإخلال بالتوازن بين منظمات الحركة، وتراجع مستوى التكامل بينها، وإعادة إنتاج الاتجاهات السياسية القائمة، وظهور الهويات الفرعية وتقديم الانتماء الاجتماعي والولاء السياسي على الكفاءة وتكافؤ الفرص، والأخذ بالتراتبية التقليدية، وإعادة ترتيب مواقع القادة السياسيين في النظام السياسي الجديد.
على الرغم من تحّول بعض الفرص السياسية إلى معوقات، فإن ذلك لا ينفي أن الحركة الاجتماعية تمكنت - إلى حدٍّ كبير - من تأطير الهتافات والشعارات وإنشاء فرص خطابية وفقًا للسياق الثقافي اليمني؛ فهي ساهمت في تعزيز الاستياء إزاء التوجه التسلطي من القادة السياسيين لدى الجماعات الاجتماعية، ولا سيما المعارضة، حيث إن التوجه السياسي والتوجه نحو التوريث شكَّلا إخلالاً بالنظام الجمهوري الذي قام إثر ثورة أسقطت الحكم الملكي الوراثي في ستينيات القرن العشرين. فقوة التأثر العاطفي بثورتي تونس ومصر كانت حافزًا كافيًا لقيام الحراك الثوري في اليمن، على الرغم من أن مستوى العوائق كانت تبدو أكبر من مستوى الفرص السياسية المواتية. ويمكن تفسير ذلك من خلال تأثير العولمة الثقافية وما نتج منها من قنوات فضائية وصلت بالخطاب الإعلامي من النطاق النخبوي إلى النطاق الشعبي، وأدت إلى تنامي الوعي الجماعي للفاعلين المحليين، وترجيح الاستجابة العاطفية على الاختيار العقلاني، والتلقّي السلبي على التحليل النقدي، ذلك أن الفاعل السياسي الجديد لم يضع في الحسبان اختلاف السياقات الاجتماعية والإنمائية.
أظهرت النتائج أن المحتجين كانوا - في معظمهم -من الفئات المتعلمة، التي تسعى إلى إحداث تحوُّل يساهم في تحقيق مطالبها والاستجابة لحاجاتها.
إلا أن محدودية مستوى الفئات المتعلمة في المجتمع في شكلٍ عام، وارتفاع معدلات الأمية، كانا عائقًا أمام مسار التغيير؛ فظهور الحركات الاجتماعية الجديدة يرتبط بالتطور المجتمعي، وبمدى اتساع قاعدته الاجتماعية، والبنية الاجتماعية في اليمن في معظمها تقليدية، الأمر الذي يفسر صعوبة تقبّلها لكل جديد، والميل إلى ما هو قائم والقبول بالقديم. استنادًا إلى ارتباط الحركة الاجتماعية وآليات تدبيرها وتشكُّلها بوساطة الموارد الاقتصادية، تبين أن قدرات المحتجّين المادية لم يكن لها أثر في تحديد موقعهم في الحركة الاجتماعية، في المرحلة الأولى للحراك الثوري، نظرًا إلى توافر الدعم المالي بعد انضمام تكتل "اللقاء المشترك" و"الحركة الحوثية" إلى الاحتجاجات. إلا أن تأثير القدرات المادية صار واضحًا في المراحل التالية، أي بعد الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 21 شباط/فبراير2012، حيث توقفت أحزاب "اللقاء المشترك" عن تمويل الاعتصامات في الساحات، فساءت أحوال المعتصمين المعيشية، الأمر الذي اضطر بعضهم إلى الالتحاق بمشاريع قوى خارجية.
إن النظام السياسي في اليمن يجمع بين الحكم الفردي القبلي الدكتاتوري، والعسكري شبه العائلي، المرتبط "بزبونية سياسية" مع الجماعات القبلية، شبه الإقطاعية، إلى جانب الاحتفاظ بهامش ديمقراطي لا يتيح فرصًا متساوية أمام الأحزاب والجماعات السياسية، وسلطة أمنية وعسكرية تفرض التمايز الاجتماعي، وتهمِّش المتعلمين - ولا سيما النساء والشباب وذوي الكفاءات وناشطي المجتمع المدني - غير المنتمين إلى حزب الحاكم أو قبيلته، وتُقصيهم عن الانتفاع بفوائد الدولة، الأمر الذي يعيق تحقيق عملية الاندماج الاجتماعي، ويساهم في استمرار الانقسامات الاجتماعية وما يرتبط بها من هويات فرعية وولاء للأيديولوجيات العابرة للدول.
لذا كانت قوة التأثر العاطفي بالحراك الثوري العربي وهويته وخطابه الجماعي، عززت الفاعلية السياسية للحركة الاجتماعية في اليمن، ومكنتها من تحقيق التكتل، لكن فرص استمرار فاعلية الحركة ظلت متدنية، نظرًا إلى ضعف البناء المؤسسي للدولة واتساع نطاق الفقر وارتفاع معدلات الأمية وازدياد حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية؛ فالصراع بين حركة اجتماعية وجماعة صغيرة من القادة السياسيين تحوَّل - جراء عمق الانقسامات وحدّة المشكلات - إلى صراع بين الجماعات الاجتماعية داخل الحركة.
بناء عليه، أثبتت الدراسة وجود علاقة متدنية بين ازدياد حدة المشكلات الاجتماعية وازدياد الفرص السياسية المواتية لقيام الحراك الثوري.
*كيف يمكن أن يسهم كتابك في خدمة المثقفين والأكاديميين والناشطين وصناع القرار؟ بعبارة أدق ما الذي يميزه عن غيره من الكتب والدراسات المماثلة؟
**بوسع نشطاء الحركة الاجتماعية وصناع القرار الاستفادة من توصيات هذه الدراسة ومنها:
• عدم استنساخ تجارب ثورية إقليمية أو عالمية، وإن كانت ناجحة؛ فشروط نجاحها مرتبطة بمستوى تطور سياقها الاجتماعي، والاستفادة من تجربة الحراك الثوري السابقة في بناء حركة اجتماعية أكثر ترابطًا وفاعلية، لا تقصي غيرها لكنها لا تقبل بإسناد قيادتها إلى الراكبين مجانًا، وإلى المنشقين، بل تنشط من أجل أهداف عامة تحقق مصلحة الجميع، بما في ذلك جماعات الثورة المضادة، إلا أنها لا تسند إليها مهمة تحقيق مطالب الثورة، ولا تسعى لتصدير الثورة إلى الخارج، ولا تقبل باستيراد وساطة خارجية.
• ضرورة تعزيز دور الشباب في مكافحة الاتجاهات المتطرفة، التي تستند إلى الإيمان برؤية مختلفة إزاء نظام الحكم، وتهدف إلى احتكار السلطة، ولا تعترف بالآخر كخصم شرعي أو منافس سياسي.
ويمكن لصناع القرار الاستفادة من توصيات هذه الدراسة ومنها:
• ضرورة قيام صنّاع القرار في الداخل والخارج بتطوير تدابير سياسية وتشريعية وأمنية، لضمان العودة إلى مسار الانتقال السياسي والحياة المدنية.
• ضرورة إشراك الشباب في أي حوار أو تسوية سياسية مقبلة، وتمكينه من الحصول على تمثيل شامل في عمليات صنع القرار، في المؤسسات المحلية والوطنية.
• ضرورة أن تعمل الدولة على تعزيز الهوية الوطنية عبر سياسات التعليم التي تشكّل القيم الوطنية وتعكسها، وتحثّ على تقبّل الجماعات المتنوّعة في اليمن.
• ضرورة أن تعمل مؤسسات التعليم على إدراج تجربة المشاركة السياسية للحركة الاجتماعية ضمن المناهج الدراسية، لإبراز دورها المتميز في تقديم بدائل فاعلة في التأثير السياسي.
• إعداد استراتيجيا وطنية لمناهضة الاتجاهات الاجتماعية المتطرفة، بما يساهم في تحقيق الاندماج الاجتماعي بين الفئات والجماعات المختلفة في المجتمع.
ومن حيث مساهمة الكتاب في خدمة المثقفين والأكاديميين، فالكتاب يتناول موضوع جديد، يسد ثغرة كانت قائمة في مضمار التحليلي السوسيولوجي المتعمق لدور الحركة الاجتماعية في اليمن في سياق ثورات الربيع العربي.
*ركزت في كتابك على العملية السياسية ودورها في الحراك الثوري داخل اليمن ما العلاقة التي تربط بين هذه المعادلة؟ بمعنى هل يتطلب الحراك الثوري عملية سياسية قائمة لينضج في إطارها، وفي حال غيابها يفتقد هذا الحراك لشروط ومقومات الفاعلية والتأثير؟
**"العملية السياسية" المشار إليها في هذه الدراسة هو نهج نظري يتضمن نظرية "تعبئة الموارد"، ونظرية "الفرص السياسية"، وتؤكد على دور الفرص السياسية، وتعبئة الموارد، وتأطير العمليات، جنباً إلى جنب مع دورات الاحتجاجات والمراجع المثيرة للجدل. وتركز على التفاعل بين سمات الحركة، مثل البنية التنظيمية، والسياق الاقتصادي والسياسي الأوسع.
جاءت نظرية "العملية السياسية" نتاجاً لسلسلة من الانتقادات ضد النظرة "العلمية الاجتماعية" التي كانت سائدة، والتي ترى بأن المتظاهرين والمشاركين في الحركة الاجتماعية كانوا غوغاء غير عقلانيين، تغمرهم عقلية جماعية. فوفقاً لهذه النظرية لم تنجم الحركات عن الاغتراب أو التصرفات النفسية غير الطبيعية، بل لتحقيق غايات سياسية وحل مظالم.
وبخصوص تساؤلك هل الحراك الثوري بحاجة لعملية سياسية قائمة لينضج في إطارها، وفي حال غيابها يفتقد هذا الحراك لشروط ومقومات الفاعلية والتأثير؟ يمكن القول: في الحالة اليمنية نعم، لأن الشباب لم تكن لديه التجربة السابقة في مضمار التأثير السياسي، ولم تكن قد تراكمت لديه خبرات سابقة في مجال الاحتجاجات، كما هو حال الحركات الاجتماعية (الشبابية) في تونس ومصر، حيث تشكلت العديد من الحركات الاحتجاجية خارج نطاق الأحزاب والجماعات السياسية، وفي اليمن تمكنت أحزاب المعارضة من تطوير تجربة "مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة"، الذي تشكل عام 1999، إلى تكتل "اللقاء المشترك" في 6 فبراير2003وهو ما يعني أن تجربة الأحزاب السياسية المعارضة، في اليمن، صارت تؤهلها لقود الحراك الشبابي الشعبي الحزبي.
*الحراك الثوري السياسي في اليمن حدث في مواجهة النظام السياسي الذي كان قائمًا وحاكمًا، لكن مع سقوط الدولة في 2014 توارى الحراك الثوري السياسي وتراجع تأثيره لصالح المواجهات المسلحة والدموية، ما المؤثرات التي أدت لهذا التواري والخفوت؟
**يمكن تفسير تراجع دور الشباب بحدوث التحول داخل الحركة الاجتماعية الاحتجاجية، خلال دورة حياة الحركة، فالشباب الذي بدأ كحركة تحمل "قضايا عادلة" ما لبث أن تطور إلى "عربة للحركة"، تجذب الانتهازيين ومن لديهم طموحات اجتماعية أو سياسية من حركات دينية متشددة وحركات استقلال تحولت إلى سلطة أمر واقع، تستند إلى الإيمان برؤية مختلفة حول نظام الحكم، وتهدف إلى احتكار السلطة، ولا تعترف بالآخر كخصم شرعي أو منافس، فهذه الجماعات هي جماعات انتقائية في العضوية، وتطالب بطاعة مطلقة من جميع الأعضاء، لما يسمى بـ "الأوامر السياسية" ولا استعداد لديها في القبول بالمشاركة السياسية للأخر.
ويمكن القول إن تدني مستوى الترابط داخل الحركة الاجتماعية لا يشير إلى غياب الهوية الجماعية للحركة، بل إلى تدني تأثيرها، فهي ماتزال باقية، ويتم التعبير عنها بأشكال وتجليات مختلفة، على الرغم من تعرضها للاستهداف ومحاولات التفتيت المستمر.
*كيف يمكن اليوم لملمة الحراك السياسي في اليمن ليستعيد دوره وعافيته من جديد بعد أن تحول من فعل جماعي موحد إلى أعمال مشتتة هنا وهناك؟
**يمكن تحقيق ذلك من خلال استلهام مفاهيم وقيم ومبادئ وتوجهات الحركة الاجتماعية الشبابية في الخطاب الإعلامي لتعزيز قيم السِلم والتعايش والتسامح والمساواة والقبول بالآخر، بما يساعد على تحقيق الاندماج الاجتماعي وترميم التصدعات التي تعرضت لها العلاقات بين مختلف فئات المجتمع، وبناء تحالف سياسي واجتماعي واسع يشمل مختلف فئات المجتمع لتحقيق التحوُّل الديمقراطي.
*حالة التفكك في اليمن أصابت أيضًا البنية القبلية والتركيبة الاجتماعية ككل وتحولت هي الأخرى لتصبح أداة تستخدمها الأطراف المسيطرة لصالحها في تنفيذ أجندتها والاستقواء بها، ما أسباب هذا التفكك؟
**أخذ الصراع في اليمن في بدايته شكل نزاع على السلطة، وانبثقت على امتداد السنوات الماضية تصدعات جديدة، فأجّجت الخصومات السياسية الانقسامات الطائفية والقبلية وبعث النزاع الحياة في الحركات الانفصالية، وخلق التهميش، والإقصاء، والفقر صدوعاً جديدةً في النسيج الاجتماعي، ونتاج ذلك يعاني اليمن اليوم من مرحلةٍ غير مسبوقةٍ من التشظي. وستبقى هذه الصدوع القبلية والطائفية والجهوية تهديداً يتربّص طويلاً باستقرار اليمن مالم يتم التوصل إلى اتفاقية سلامٍ سياسي.
*هناك أصوات اليوم ترى أن ما جرى من فعل وحراك سياسي مؤثر للشباب في اليمن وتجلى في الثورة الشعبية التي انطلقت في فبراير من العام 2011 كان عملًا متهورًا أطاح بالدولة وبالنظام السياسي، وأوصل اليمن إلى هذا الحال الذي نعيشه اليوم، ومن وجهة نظرك كباحث وأكاديمي كيف تنظر لهذا الطرح؟
**من وجهة نظري أن الشباب في اليمن كان يعاني من التهميش والإقصاء، من حيث القدرة على التأثير في الأحداث السياسية والاستجابة لاحتياجاته من فرص العمل وبرامج التنمية الاجتماعية، وما إن قامت الثورات العربية التي كان الشباب في مقدمتها، حتى تحوَّل إلى جماعة سياسية ذات تأثير وفاعلية، وما قام به لم يكن عملًا متهورًا، فقد استجابت المعارضة الشبابية في اليمن للأحداث الثورية العربية، فالموجة الأولى للثورات العربية – في تونس ومصر- كانت قدمت تخفيضًا غير مسبوق في تكلفة إسقاط أنظمة الحكم التسلطية في الجمهوريات العربية، وهو ما أغرى الشباب في اليمن على إطلاق الحراك الثوري.
*هل كان الحراك الثوري السياسي الذي حدث في اليمن عام 2011 نتيجة لمرحلة سبقت انفجاره، بمعنى هل امتلك ذلك الحراك المبررات الكافية ليتجسد في ذلك الفعل، أم أن ذلك الحراك كان فقط مجرد صدى لحراك مشابه شهدته بلدان عربية قبل اليمن كتونس ومصر؟
**لم يكن الحراك الثوري السياسي منفصلًا عما قبله من أحداث وتطورات سياسية في اليمن، فمع الاعتراف بأن الحركة الاجتماعية في اليمن تشَكُّلت تحت تأثير الحراك الثوري في تونس ومصر إلا إن ذلك لا ينفي الإرهاصات التي كانت تحدث داخل اليمن، فقد سعت أحزاب المعارضة السياسية في التأثير على "الحزب الحاكم"، لدفعه إلى القبول بمقترحاتها في الإصلاح السياسي، والحد من توجهاته نحو الانفراد بتعديل بعض القوانين، مثل: تعديل قانون الانتخابات، وغيره من القرارات التي كانت ترى أن اتخاذها يتطلب التشارك والحوار، للحد من التوجهات السياسية التي يترتب عليها تدني فرص المعارضة في المشاركة السياسية، إلا إن حزب "المؤتمر" انفرد بتعديل قانون الانتخابات، وبدأ في التهيئة لإجراء تعديلات دستورية، وتأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في 27 إبريل 2009، مستفيدًا من الأغلبية النيابية التي لديه، ومما لدى رئيس الجمهورية من صلاحيات، وأمام هذه الإجراءات أخذ تكتل "اللقاء المشترك" في ديسمبر 2010 مسارًا تصعيديًّا إزاء ما أسماه "سياسية الأمر الواقع التي أنتجتها السلطة خارج المشروعية السياسية والدستورية".
إذ انتهى تقييم هذه المرحلة عند أحزاب "اللقاء المشترك" إلى ضرورة اتخاذ خطوات عملية محددة لاستنهاض الطاقات الشعبية بكل الوسائل السلمية المتاحة، لمواجهة إجراءات السلطة السياسية، وعقب انطلاق ثورات الربيع العربي في تونس ومصر دعت أحزاب "اللقاء المشترك" في 6 يناير 2011، إلى تصعيد الاحتجاجات الشعبية في مختلف المحافظات، وبناء حركة اجتماعية واسعة، في مواجهة السياسات والتوجهات التي يعتمدها القادة السياسيون في السلطة، وتهيئة البلد للتغيير السلمي، إلا إنَّ استجابة المواطنين لدعوة الأحزاب السياسية كانت متدنية؛ لأن الوسائل التي تستخدمها في محاولة التأثير لحشد المؤيدين والضغط على النظام السياسي كانت تقليدية ومعروفة سلفًا من قبل القادة السياسيين ولديهم الوسائل التي تعيق فاعليتها، لذا صارت الحركات الاجتماعية (الشبابية) هي الشكل الأسهل والأكثر مرونة وقدرة على الاتصال بالشارع من الأحزاب، لقد كانت هناك حاجة لظهور فاعل سياسي جديد، غير تقليدي في بنيته وتنظيمه وأساليب تحركه وأهدافه ومطالبه، ونعني بذلك (الشباب).
*من خلال دراستك هل نجح الربيع العربي في اليمن في تحقيق أهدافه، واحداث تغيير حقيقي بالمجتمع والدولة، وخلق تحول سياسي فعلي؟ وأين أخطأ وأين أصاب هذا الحراك؟
**أدى الفعل الثوري إلى اسقاط رأس النظام السياسي ونقل المعارضة السياسية والاجتماعية إلى موقع المشارك في الحكم، فصارت الجماعات الاجتماعية والسياسية المستبعدة عن السلطة فاعلًا سياسيًا أساسيًا، كما تحسنت على إثره الأوضاع الاقتصادية والمواقع الاجتماعية للشباب، ويرتبط ذلك بكثافة التنقل داخليًا وخارجيًا، وكثافة التواصل والاتصال السياسي والعلاقات الاجتماعية وما ترتب عليها من منافع مادية، ففي المرحلة الانتقالية تم الحد من التعقيد البيروقراطي والحد من المركزية، التي كانت تعوِّق حصول الشباب على الوظائف وحصول الموظفين على الترقيات...، وتراجعت العوائق التي كانت تحد من أنشطة المجتمع المدني.
لكن ما إن بدأت الحركة الاجتماعية في توزيع الفوائد، حتى ظهر التفكك والانقسام، فتحولت إلى حالة من الصراع، نتج عنها نفي البعض من البلد، وفصل آخرين من وظائفهم، وفقدان البعض لأهله، وسقوط الدولة وفقدان المجتمع للسِلم الأهلي، فقد أخطأ الشباب في تقدير تكاليف وفوائد المشاركة في الحراك الثوري ضد نظام سياسي قمعي، حيث تزداد هذه الحسابات تعقيدًا بسبب تأثير التدخل الخارجي، ووجود اختيارات أخرى لدى الفاعلين السياسيين في الداخل، منها: الفرار أو الهجرة، أو الخروج من البلد، وهو ما حدث في اليمن، بدءًا من عام 2012، وازداد بشكلٍ أكبر أواخر عام 2014 ومطلع العام 2015، حيث فر أعضاء الحكومة والقادة السياسيون والعسكريون من مختلف الأحزاب والجماعات السياسية مع عوائلهم.
ويمكن القول إن الحراك الثوري ساهم في إعادة توزيع التأثير السياسي والاجتماعي، الذي ما عاد حكرًا على الفاعلين السياسيين المحترفين، بما لديهم من وسائل إعلام تقليدية وأنساق اتصال سياسي، بل صار في إمكان الفئات الشعبية ممارسة التأثير السياسي والنقد ومكافحة الفساد، عبر الإعلام الاجتماعي والقنوات الفضائية؛ فعلى الرغم من أن الحركة الاجتماعية لم تحقق جميع مطالبها، فإن أجزاء من برنامجها جرى قبولها.
*أين يكمن الخطأ اليوم: هل في الفعل الثوري في اليمن وأطاح بنظام صالح أم مستجدات وتحولات ما بعد الحراك السياسي الثوري في اليمن، ومن المسؤول عن حدوث تلك التحولات التي حرفت المسار في اليمن نحو وجهة أخرى؟
**مسؤولية ما حدث لا تقتصر على جماعة سياسية بحد ذاتها، فقد استفادت الجماعات التسلطية من الفرص السياسية التي ترتبت على محدودية تأثير برامج التنمية، ونجمت عن الهزات الثورية العنيفة، حيث تعرضت شرعية النظام الاجتماعي للهجوم من مختلف الجماعات الاجتماعية والسياسية من خلال الدعوة إلى وضع ترتيبات جديدة، لكن الطلب على التغيير اجتمع مع مقاومته؛ لذا تم الحفاظ على العادات والترتيبات القديمة، بديلًا للأوضاع التي كانت قائمة، حيث واجهت الجماعات الاجتماعية والأحزاب السياسية بعضها البعض في شكل من أشكال الصراع.
*لماذا سقطت الدولة بهذا الشكل في اليمن، وآلت إلى التمزق التام للدولة والنظام السياسي، وشهدنا نموذجًا مختلفًا عن بلدان الربيع العربي لا يزال اليمن يدفع فاتورته حتى هذه اللحظة؟
**سقطت الدولة بهذا الشكل لعوامل عدة أهمها اختلال البنية السياسية وعدم اكتمال نموها المؤسسي، فهذا الاختلال يعيق عملية التحول السياسي السلس، كما أن الانقسامات الاجتماعية تعيق تكوُّن الهوية الجماعية وتعيق استمرار عملية الاصطفاف للحركة الاجتماعية أو التكتل الاجتماعي الواسع، فالصراع بين حركة اجتماعية واسعة وجماعة صغيرة من القادة السياسيين تحول إلى صراع بين جماعات اجتماعية وجماعات أخرى، ما جعل فرص إعاقة التغيير أكثر من فرص تحققه، فقيام الحراك الثوري في اليمن ارتبط بالتأثر العاطفي بالحراك الثوري المصري والحراك الثوري التونسي، أكثر من ارتباطه بتوافر الفرص السياسية والخطابية، وتكوُّن الهوية الجماعية، فالعلاقة بين قيام حراك ثوري سياسي وبين ظهور فرص سياسية وخطابية مواتية ليست قوية، إذ قد يؤدي التأثر بحدث ثوري في سياق متقدم إلى قيام فاعلين غير محترفين، ومن دون تنظيم، بإطلاق حراك ثوري في سياق اجتماعي مختلف دون ظهور فرص سياسية مواتية لقيامه، ودون حساب مخاطر قيامه قبل اكتمال محدداته الاجتماعية وشروطه الموضوعية.
*كيف أثر الدور الخارجي على الحراك الثوري السياسي في اليمن؟ وهل عزز من فاعلية هذا الحراك أم أنه كان سببا في إضعافه والتآمر عليه؟
**التأثير الإيجابي للدور الخارجي يكاد يقتصر على قطر بوسائلها الإعلامية ومنابرها الثقافية وعلى السفارات الغربية التي كان تأثيرها جيدًا؛ وإن كان محدودًا، فقد منح الشباب فرصةً للضغط على النظام السياسي، وإجمالًا فإنَّ الحركات الاجتماعية ليست ناتجة عن المحرضين الخارجيين؛ إذ من المؤكد أنَّ الغرباء يسرِّعون من انتشار الحركة، أو يسهمون في تراجعها، لكن ما لم يكن السكان المحليون "جاهزون"، فمن المرجح أن يحرض المحرض دون أن يجد استجابة.
*تحدثت في كتابك عن دور القوى التقليدية في اليمن والتي جرى استهدافها وإضعافها بشكل كبير لصالح بروز قوى جديدة أكثر تطرفًا وإعاقة للتحول السياسي في اليمن، هل جرى تضخيم دور تلك القوى وإعطائها حجمًا أكبر من حجمها، أم أنها كانت بالفعل عاملًا معيقًا؟
**هناك نوعان من القوى التقليدية تتبادلان المواقع بحسب توجهات التمويل الخارجي، فقد ساعد المال السياسي السعودي ممثلًا بالرواتب التي كانت تتدفق من (اللجنة الخاصة) السعودية لزعماء القبائل في شمال اليمن على منح القبيلة، ممثلة برموزها، أدوارًا سياسية تفوق قوتها في الواقع، وعندما حاولت هذه القوى القبلية الاصطفاف مع الثورة في 2011 رأى الممول الخارجي أنها صارت أوراقًا محروقًا، يجدر به التخلص منها، الأمر الذي أفسح المجال لممول خارجي آخر باللعب على الورقة الطائفية، ممثلة بجماعة الحوثي التي مُنحت هي الأخرى فرصة أن تلعب دورًا يفوق حجمها، وكلا الجماعتان التقليديتان قامتا بأدوار معيقة للتحديث والتنمية.
*إذا نظرنا للأحداث في اليمن بعد الفترة الزمنية التي حددتها دراستك 2011 -2016، أي من 2017 – 2022، هل هناك مؤشر مختلف لدور الشباب في هذه الفترة قياسًا بالفترات السابقة؟ سواء في زيادة الفاعلية للشباب أو تراجعها؟
**هناك تراجع في الدور السياسي للشباب في اليمن خلال هذه الفترة، فالمجال العام صار في أضيق حالاته، الأمر الذي يؤثر سلبًا على فرص التمثيل السياسي للشباب، كما أن مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور التي ضمنت للشباب حق التمثيل السياسي في مختلف مؤسسات الدولة بنسبة 20 في المئة لم تدخل حيز التنفيذ.
ففي مجتمع آل إلى الانغلاق، وباتت تسيطر عليه جماعات سياسية مسلحة تميل إلى التطرف، في استخدام العنف، ترتفع تكلفة المشاركة السياسية للشباب، في ظل اختفاء بعض الموارد مثل المال والإعلام والتضامن والشرعية والدعم الداخلي والخارجي والقدرة على استعمال هذه الموارد وتراجع الحوافز والفرص السياسية والفوائد المتوقعة.
*المواطن اليمني اليوم يعتقد أنه يدفع تكلفة المتغيرات السياسية ومحطات الصراع المتتالية في البلد، بينما من كانوا سببا في وصول الوضع لهذا الحال لايزالون في المشهد، بل يجري إعادة انتاجهم من جديد، وتقديمهم كحكام للبلد، ما أسباب هذا الوضع؟ وكيف يمكن تغييره فعليًا؟
*عقب مشاركة أحزاب "اللقاء المشترك" في حكومة توافق وطني ضمت المؤتمر الشعبي العام، تراجع مستوى التحركات الاحتجاجية، فوصل الحراك ّ إلى حالة من اللاحسم الثوري، الأمر الذي أثر في تغيير مجرى الصراع من صراع بين قوى الثورة والنظام الحاكم إلى صراع بين جماعات اجتماعية تفتقر إلى التمثيل في الحكومة، وأحزاب سياسية ممثلة، رجحت الحلول التوفيقية، وقبلت بالاكتفاء بتغيير الرئيس عبر انتخابات غير تنافسية، وانضمت إلى حكومة توافق وطني ضمت إلى جانب أحزاب اللقاء المشترك قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام، فتشكلت بذلك دولة (هجين) تجمع بين قوى الثورة والثورة المضادة.
لذلك الطلب على التغيير اجتمع مع مقاومته، ولذا حوفظ على العادات والترتيبات القديمة بديلًا من الأوضاع التي كانت قائمة، حيث واجهت الجماعات الاجتماعية ً والأحزاب السياسية بعضها بعضا بشكل من أشكال الصراع.
ويمكن تغيير هذا الواقع من خلال الضغط الشعبي لتطوير تدابير سياسية وتشريعية وأمنية، لضمان العودة إلى مسار الانتقال السياسي السلمي والحياة المدنية.
*اليوم هناك غياب واضح لدور الشباب اليمني، سواء في منظومة الحكم، أو في قيادة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ما أسباب هذا الغياب، وكيف يمكن تمكين الشباب اليمني من تصدر المشهد؟
**بعد أن تحول ّ مسار التغيير إلى العنف، حدثت انتكاسة للوعي الاجتماعي الذي تشكل مع الحراك الثوري، فاستبدلت بعض الجماعات النهج السلمي باستخدام السلاح وانتهاج العنف، تحت تأثير الخطاب الإعلامي والتحريض على العنف، فسيطرة الجماعات الدينية المتشددة ما عادت تسمح بوجود المجال العام الذي كان يتيح القبول بالرأي الآخر ويقر بالدور السياسي للشباب، لذا يظل من الأهمية بمكان إشراك الشباب عبر (نظام الكوتة) في أي حوار أو تسوية سياسية مقبلة، وتمكينه من الحصول على تمثيل شامل في عمليات صنع القرار، في المؤسسات المحلية والوطنية وفقًا لما تضمنته مخرجات الحوار الوطني ومسودة الدستور.
*كيف أثرت الحرب القائمة اليوم اليمن، والدعوات الطائفية والمناطقية وتعدد الكيانات وتداعيات الحرب كالنزوح والهجرة على الشباب ودورهم؟
**أدى التحول للعنف المسلح إلى ارتفاع تكاليف الحراك الثوري للشباب، والحد من فرص مشاركتهم السياسية؛ فالهياكل التنظيمية للحركة تتأثر بالانقسامات الاجتماعية والهويات الفرعية على نحو يجعلها تتجنب التجديد، وتميل إلى الاستئثار بالفوائد المتاحة، وتجعل هذه الجماعات تقاوم أي مبادرة لحل القضايا الخلافية بينها وبين الجماعات السياسية الأخرى، لأن الحلول تتجاوز حدود الحوار والتفاوض، وترتبط بأبعاد تنموية.
فالاختلاف الأيديولوجي والإقصاء السياسي والتهميش التنموي، كل ذلك يساهم في إعاقة تماسك الحركة، ويؤدي إلى ظهور غايات سياسية لم تكن معلنة، فالاستناد إلى هوية فرعية بديلة للهوية الجماعية يعيق الاعتراف بالآخر، ويمنع النقاش والتفاوض معه، ولا سيما إذا كان مصدر الخلاف أيديولوجيا متطرفة تجعل الحقيقة حكر على الذات وتجرد الآخر من أي صفة يمكن أن تضعه في موقع الند.
ومن حيث أثر النزوح والهجرة في دور الشباب، بدلًا من القيام بدور عابر للهويات الفرعية والانتماءات الأيديولوجية وجد الكثير من الشباب نفسه إما محصور في نطاق قبيلته أو طائفته أو منطقته الأصلية، بما تحمله من إرث الماضي وصراعاته، وجراء هجرة الحكومة إلى الخارج صار نصيب الشباب المهاجر في الوصول للمناصب السياسية والمنابر الإعلامية أفضل من نظيره داخل الوطن الأمر الذي أسهم في تزايد حالة الإحباط وخيبة الأمل وتفكك الحركة الاجتماعية (الشبابية).
*هناك حالة فقدان واضحة للهوية اليمنية في أوساط الشباب اليمني، ما اضطر بعضهم لتبني شعارات تبحث في الماضي سواء عن أمجاد ماضية، أو ارتباط مذهبي، هل نحن أمام أزمة هوية في أوساط الشباب اليمني؟ وما أسباب استحضار الماضي اليوم؟
**ارتبط التحول من حال التنافس السياسي إلى الصراع المسلح بظهور اتجاهات اجتماعية متطرفة، ونزعات عرقية وجهوية وقبلية ساهمت في تعميق حدة الانقسامات ً الاجتماعية، ووضعت مزيدًا من العوائق أمام مسار التحول السياسي، في ظل اتساع نطاق الفقر وشح الموارد وتأثير القيم القبلية ونمط الزراعة التقليدية، إلا إن تدني مستوى الترابط داخل الحركة الاجتماعية، في معظمه، لا يشير ّ إلى غياب الهوية الجماعية للحركة، بل إلى تدني تأثيرها، فهي لا تزال باقية، ويتم التعبير عنها بأشكال وتجليات مختلفة، على الرغم من تعرضها للاستهداف ومحاولات التفتيت المستمر.
ويُعد تزايد العوائق والتحديات التي تحول دون تحقيق رفاهية الأفراد وضمان الحياة الكريمة لهم مدعاةً لاستحضار الماضي، بما يتضمنه من مقولات دينية تعد بالنعيم الأخروي.
*كيف يمكن أن نعزز اليوم الهوية الوطنية لدى الشباب ولدى الأجيال القادمة خاصة في ظل ارتفاع وتيرة الدعوات المناطقية والمذهبية التي خلخلت بنية المجتمع وساهمت في انقسامه وتأجيج الصراع فيه؟
**من خلال القبول بنظام ديمقراطي يعترف بالتنوع الاجتماعي والديني في اليمن وتعدديته السياسية ويُقر بالهوية الوطنية الجامعة، ولن يتسنى ذلك إلا من خلال استئناف الحوار إزاء القضايا الجدلية، التي أثيرت في مؤتمر الحوار، ومنها مشروع الدولة المدنية وتوزيع السلطة والثروة على نحوٍ يضمن تعزيز الاندماج الاجتماعي.
*إلى أين يتجه المشهد السياسي اليمني اليوم في ظل حالة الحرب والصراع البيني والدور الخارجي المتحكم بالمشهد عمومًا؟
**من المؤسف أن المشهد السياسي اليمني اليوم يتجه نحو المزيد من الاقتتال والحروب الأهلية وتمزق النسيج الاجتماعي ونظام الكنتونات المعزولة عن بعضها، وليس ثمة مؤشرات توحي بغير ذلك على المدى القريب.
*رغم أهمية الحراك الثوري السياسي في اليمن خاصة خلال السنوات الأخيرة إلا أن هناك ضعف في توثيق هذه التجربة ونقلها للأجيال لماذا هذا الضعف في دراسة تلك المرحلة وتوثيقها؟
**نعم هناك ضعف في توثيق هذه التجربة، حتى أن إحدى ناشطات الحراك الثوري عندما علمت بصدور كتاب (دور الشباب في الحراك الثوري السياسي في اليمن) قالت (لم يتبق من الحراك الثوري سوى هذا الكتاب)، ويرتبط تفسير ضعف تناول ذلك الحدث الثوري بما آلت إليه الأوضاع من انهيار للدولة وتشظي للمجتمع، الأمر الذي يجعل من توثيق مثل هذا الحدث، في نظر الكثيرين، مضيعة للوقت، وكأن من يكتب عن حدث لم يُكتب له النجاح هو بالضرورة يحمل رايته ويدافع عن صوابيته.
*ما الذي يمكن أن تضيفه في نهاية هذا الحوار؟
**أنصح بضرورة الاستفادة من تجربة الحراك الثوري السابقة في بناء حركة اجتماعية ً أكثر ترابطا وفاعلية، لا تقصي غيرها لكنها لا تقبل بإسناد قيادتها إلى الراكبين مجانًا، وإلى المنشقين، بل تنشط من أجل أهداف عامة تحقق مصلحة الجميع، بما في ذلك جماعات الثورة المضادة، إلا أنها لا تسند إليها مهمة تحقيق مطالب الثورة، ولا تسعى لتصدير الثورة إلى الخارج، ولا تقبل باستيراد وساطة خارجية.