النمل الحاقد.. تجارب لصحفيين فرنسيين تحكي تعامل إسرائيل مع الإعلام في فرنسا
- العربي الجديد الثلاثاء, 18 مايو, 2021 - 04:45 مساءً
النمل الحاقد.. تجارب لصحفيين فرنسيين تحكي تعامل إسرائيل مع الإعلام في فرنسا

[ تعرّض الصحافي شارل أندرلان لضغوط ومحاكمات بعد قضية محمد الدرة (جويل ساجيه/فرانس برس) ]

تثبت الهجمات المتواصلة بلا هوادة مرة أخرى ما يحتاجه الصحافيون الفرنسيون من عزيمة فولاذية لتغطية الأخبار في فلسطين وإسرائيل، بين مضايقات تقوم بها حفنة متهيجة من المؤيدين لإسرائيل وتردد هيئات التحرير. هذا ما آل إليه الوضع بعد الحملة العنيفة ضد الصحافي الفرنسي شارل أندرلان لبثه صور مقتل الطفل محمد الدرة في تقرير تلفزي.

 

بعد أن أسفرت اعتداءات اليمين المتطرف الإسرائيلي في القدس الشرقية على عودة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحماس، تتبين لنا مرة أخرى أهمية وجود رؤية مستقلة في عين المكان، وهو عادة دور مراسلي وكالات الأنباء والصحف. برقياتهم ومقالاتهم تفضح التصريحات الكاذبة لحكومة بنيامين نتانياهو التي يُعاد نشرها على صعيد واسع ودون تنسيب -خاصة من قبل جزء من الإعلام السمعي البصري الفرنسي- من قبل أنصار إسرائيل الذين يشكلون لوبي سياسي وإعلامي واسع تطرقنا إليه خلال هذا التحقيق. وتبدو المعركة غير متساوية أمام شراسة هذه الدعاية. لكنها لم تُحسم بعد.

 

هنا يروي ثلاثة صحافيين، من ثلاث هيئات تحرير، عملوا في ثلاث فترات مختلفة، غطوا أوضاع إسرائيل وفلسطين، طالبوا بعدم الكشف عن هوياتهم، عن المكالمات الهاتفية غير اللائقة، والتهديدات غير المبطنة، واللعبة المزدوجة لرئاسات تحريرهم. 

 

عمل الأول، دعونا نسميه إيتيان، كمراسل في القدس ليومية وطنية، والثاني، مارك، في وسيلة إعلامية سمعية ــ بصرية، وكان الثالث، فيليب، مبعوثاً خاصاً منتظماً لأسبوعية.

 

مثل معظم المبعوثين الخاصين والمراسلين في إسرائيل، يثني هؤلاء على جودة العمل في هذا البلد: الصحافة هناك متعددة، ومصادر المعلومات كثيرة ومفتوحة، والمواضيع متنوعة. وحدها المعلومات المتعلقة بـ"الأمن القومي" تخضع للجنة الرقابة العسكرية، ويُمنع نشرها في بعض الأحيان، والسبب بشكل أساسي هو منع التعرف إلى هوية الجنود في وسائل الإعلام السمعية ــ البصرية. ولكن هذا يخص أساساً الصحافة الإسرائيلية التي غالباً ما تكون عنيدة، ولا تزال كذلك على الرغم من المناورات الكبيرة لبنيامين نتنياهو وأصدقائه من مليارديرات وسائل الإعلام لتطويعها.

 

يروي ثلاثة صحافيين من ثلاث هيئات تحرير تجربتهم، ونشر العديد من مراسلي صحيفتي "لوموند" و"ليبيراسيون" أو هيئات تحرير أخرى عند عودتهم من إسرائيل كتباً غالباً بقدر ما تكون رائعة، تكون نقدية بخصوص المجتمع الإسرائيلي. لا يكمن المشكل إذاً في إسرائيل، "نعمل هناك بشكل جيد، فالناس معتادون على الصحافة ويمكن الذهاب إلى كل مكان، كل شيء مفتوح. المضايقات نتعرض لها في فرنسا". يقول روني باكمان ، الذي عمل لمدة طويلة في "لو نوفيل أوبسرفاتور"، وهو اليوم يعمل في موقع "ميديابارت". ولكي نكون أكثر دقة: تتم مضايقة الصحافيين، والتعتيم على المثقفين المنتقدين للسياسة الإسرائيلية.

 

لنترك هؤلاء الصحافيين الثلاثة يتكلمون بشكل أوسع:

 

إيتيان مراسل سابق ليومية

 

"المفاجأة الأولى عندما أقمت في القدس، تمثلت في مجيء أحد رؤساء تحرير الجريدة لزيارتي وقدم لي أحد (الأصدقاء) القدامى من الموساد. ربطني هذا الأخير بعميل أصغر في الاستخبارات الإسرائيلية يطلق على نفسه اسم بول، وهو أحد الضباط المسؤولين عن الصحافة الأجنبية. قدم لي بول بانتظام وثائق في مجلدات بلاستيكية لا أستعملها، لأنه لا يمكنني التأكد منها من مصدر ثانٍ أو لأن المعلومات التي تتضمنها غير مهمة. غير أنني كنت أجد هذه المعلومات نفسها منشورة في الجريدة في أكثر من مرة، بتوقيع رئيس التحرير، الذي تبيّن أنه يأتي إلى إسرائيل من دون إخطاري. وقد ذهب حتى إلى إجراء مقابلة صحافية مع رئيس الوزراء من دون أن يشاركني فيها، على عكس العرف الذي ينص على أن يكون المراسل في البلد حاضراً خلال المقابلة.

 

بعد أشهر قليلة من ذلك، تلقيت تكليفاً غير عادي من قسم المجتمع في الصحيفة: مقال حول اليهود الفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل بسبب تنامي معاداة السامية في فرنسا. لكنّ استطلاعاً سريعاً كشف لي أن الواقع مختلف تماماً. فعدد المهاجرين القادمين من فرنسا لم يكن قد ارتفع في فترة تكليفي بالتقرير، وكل من قابلتهم قالوا لي إنهم قدموا إلى إسرائيل بوازع صهيوني وليس خوفاً، وأن "البلد الذي يتعرض فيه اليهود للخطر هو إسرائيل.

 

في السياق نفسه، زوّدني مصدر في الوكالة اليهودية بإحصائيات حديثة تظهر البروفايل (النضالي) للمهاجرين من فرنسا: أكثر من 90 في المائة منهم مروا في فرنسا بمدارس أو هيئات يهودية. وتؤكد أغلبية كبيرة منهم بأنها هاجرت لأسباب أيديولوجية. لكن هذه النتيجة لم ترضِ الصحافية المكلفة بمتابعة مقالي من قسم المجتمع، ولم أكن أعرف وقتها بأنها مقربة من اليمين الإسرائيلي. في اليوم التالي وجدت مقالي في الجريدة مبتوراً ومنقوصاً من الأرقام المزعجة. الصحافية نفسها عادت وكتبت مقالاً مجاملاً عن (الجالية اليهودية الفرنسية الغاضبة من الصحافة). 

 

كذلك، وبما أنني كنت أذهب بانتظام إلى الضفة الغربية وغزة وأعطي الكلمة للفلسطينيين، احتج المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف CRIF)، لدى إدارة الصحيفة التي أعمل فيها. وقد عرفت ذلك من رئيس الـ(كريف) نفسه. في نهاية مؤتمر كان يشارك فيه في القدس استدعاني جانباً وسألني: (هل اتصل بك مديرك؟)، سألته لما يمكن أن تهمه اتصالات خاصة بالجريدة، وأجبته: (لا يتصل بي مديري مطلقاً، فهو يثق بي تماماً)، ثم تركته.

 

عرفت بتفاصيل القصة لاحقاً بعد سفري إلى باريس. إذ التقيت مدير التحرير الذي شرح لي: (لقد دُعيت إلى رحلة لإسرائيل من قبل الكريف، وذهبت إلى هناك من أجل أن أنعم بسلام. لم أرغب في محادثتك بشأن ما قالوه لي، حتى لا أزعجك أو أؤثر عليك، وبالطبع لم أكتب أي شيء عن الموضوع). عندما تم استبدال هذا المدير بعد تغيير أحد المساهمين في الجريدة كنت قد عدت إلى باريس. وتباهى خليفته في كل مكان بأنه جعل من اليومية (صحيفة مؤيدة لإسرائيل)". 

 

مارك مراسل وسيلة إعلامية سمعية بصرية

 

"تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى تطبيع صورتها دولياً، ولكن المشكلة لا تكمن في بنيامين نتنياهو بقدر ما تكمن في داعميه في فرنسا. عندما ننفذ تحقيقاً صحافياً من الضفة الغربية، ينزعج وينفعل هؤلاء على الشبكات الإجتماعية، وفي مواقعهم ويتهموننا بمعاداة السامية وبترويج أخبار كاذبة. إنه هذيان كامل. المشكلة بالنسبة لنا في المؤسسات السمعية البصرية، أنه خلافاً للصحافة المكتوبة، التي ليس عليها رقابة خارجية، يتم تتبعنا من طرف مجلس السمعي ـ البصري الأعلى، علماً أنّ أعضاء هذا المجلس لا يعرفون شيئاً ولا يدركون حتى كيف نعمل، ولكنهم يعتبرون أنه علينا (ضمان معالجة متوازنة للنزاع)، كما يمكنهم أن يوجهوا إلينا (تحذيرات). إنه سيف ديموقليس مشهر فوق رؤوسنا. 

 

هكذا تم توجيه الاتهام لـ(راديو فرانس)، في يوليو/ تموز 2020، من قبل مجلس السمعي ـ البصري الأعلى بخصوص تقرير حول تدمير الجيش الإسرائيلي لعيادة متنقلة لمكافحة فيروس كورونا في الأراضي المحتلة بثته (فرانس أنتير). لقد كذّبت تنسيقية الأنشطة الحكومية في الأراضي المحتلة، وهي فرع الجيش المكلف بالسلطة في المناطق المحتلة، التقرير المبني على مصادر خاصة بإذاعة (فرانس أنتير). وقدّم النائب الفرنسي ميار حبيب شكوى إلى مجلس السمعي ـ البصري الأعلى، علماً أن الرجل يعتبر أساساً بأن إذاعة (فرانس أنتير) هي وكر للإسلامويين ـ اليساريين. كل ذلك يجعلني حذراً، وعليَّ أن أفكّر مرتين قبل أن أقترح موضوعاً ما. فأنا لا أريد التعرض إلى المضايقات باستمرار، كما أن رئاسة تحريري لا تريد تلقي توبيخات من مجلس السمعي ـ البصري الأعلى".

 

فيليب مراسل خاص لمجلة

 

"زرت إسرائيل وفلسطين كثيراً، رغم أن ذلك لم يكن جوهر عملي. ذهبت إلى هناك للمرة الأولى قبل 20 عاماً في رحلة استكشافية نظمتها اللجنة اليهودية الأميركية في باريس. لم أكن الأول ولا الأخير الذي قام بهذا النوع من الرحلات. كان ذلك منظماً ومدفوع النفقات بالكامل. تدعو اللجنة اليهودية الأميركية عادة مختلف أنواع الزملاء وليس فقط المراسلين في الأقسام الدولية. فهناك كُتاب أعمدة، ورؤساء تحرير، وصحافيو أقسام. في مجموعتي كان هناك صحافي متخصص في مسائل النقل، وزميلة تغطي قضايا الاستهلاك والحياة اليومية في قسم تحرير تلفزيوني. كانت الأمور محكمة ويتم تسييرها بسرعة، قمنا بجولة على متن طائرة عمودية في النقب والتقينا عدداً من النواب والوزراء، والتقينا حتى في ذلك الوقت ممثلاً عن معسكر السلام. على حد علمي لم يكتب أحد شيئاً ولم يكن يطلب منا شيء، ولكن بالطبع عندما تتم دعوتك إلى رحلة شبيهة، لا يمكن البصق في الصحن. في البداية لم أواجه أي مشكلة في تمرير مقالاتي، على الرغم من أن أحد رؤساء التحرير كان ينشر افتتاحيات موالية أكثر فأكثر لإسرائيل وكانت تتناقض مع ما كنت أكتبه… تلقيت بسبب أحد مقالاتي العديد من الرسائل المعادية وأعرف أن رئاسة التحرير هي أيضاً ومن دون شك تلقت مكالمات من أصدقاء مؤثرين في الجريدة. ثم شيئاً فشيئاً، ومن دون أن يخبرني أحد بشيء، صار من الصعب أكثر فأكثر الذهاب إلى هناك. كان يقال لي: (هل أنت متأكد؟)، (في الحقيقة لم يعد القراء مهتمون بهذا الموضوع)، (أليس ذلك مكلفاً بعض الشيء؟)، ولكن كل هذه الحجج لم تكن تقدم في ما يخص كتابة الافتتاحيات. فالرأي المؤيد لإسرائيل أصبح جامحاً في الجريدة من دون أن يقابله تحقيق ميداني أكثر اتزاناً".

 

رقابة ذاتية؟ جبن؟ كسل؟ تأييد؟ "قليل من كل ذلك"، يقول آلان غريش

 

تجربة غيوم جاندرون

 

عرض غيوم جاندرون، مراسل جريدة "ليبراسيون" في إسرائيل ـ فلسطين بين عامي 2017 و2020، الحال هذا، في مقال نهاية عمله كمراسل هناك، نشر في اليومية في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2020: 

 

"أصبحت إسرائيل وفلسطين اليوم متشابكتين أكثر من أي وقت مضى، بحقائق ليست متوازية بل متكدسة، وبأقدار كما لو أنها مكبلة بالأصفاد. ففي حين يتجذر المستوطنون، ما يضفي على الضفة الغربية طابع التكساس ـ كوشير، نوع من بلاد دونالد ترامب المتكررة، حيث يقوم رعاة البقر الذين يرتدون القلنسوة الصوفية (كيبا) بإعادة لعب أسطورة الحدود، بشاحنات صغيرة وبنادق أم 16 أمام هنود وعرب، ويقوم عامل بناء من جنين بكسب قوته في ورشات تل أبيب وراء الجدار المجتاز بتصريح أو بدونه. في الوقت نفسه لا يحلم الشباب الفلسطيني، المحروم من أي آفاق، سوى بالبحر". 

 

في لقاء له مع دومينيك فيدال في معهد البحث والدراسات /المتوسط والشرق الأوسط/ (إريمو)، بعد أسابيع قليلة من نشر هذا المقال، تأسف جاندرون، مثله مثل كل الصحافيين الفرنسيين الذين يغطون الأحداث في تل أبيب وفي القدس ورام الله، من المضايقات التي يقوم بها المتعصبون للدفاع عن إسرائيل في فرنسا. "هناك طريقة جد منظمة في تسيير الاعتداء، هناك أشخاص يقومون بذلك طوال اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، يفككون تقارير مراسلين بحثاً عن معلومات مظللة مزعومة". يواصل غيوم  جاندرون: "في البداية كنت أجادل، ولكن مع أشخاص بهذا الكم من سوء النية ومستعدين لتحريف كلماتك، تأتي الأوقات التي لا يجب الدخول فيها في النقاش لأنه في الواقع ليس نقاشاً".

 

حراس إسرائيل

 

بين "فراغات" على الهواء وذكريات هاربة، ليس من السهل تقييم المعالجة الإعلامية للعلاقة بين فرنسا وإسرائيل. على الرغم من أنه "ليس موضوعاً"، كما قيل لي بطرق مختلفة خلال الأشهر الأخيرة، فإن هناك حراساً قائمين يتولون مهمة تصفية حسابات الصحافيين الذين يقومون بتأدية واجبهم فقط. من هم هؤلاء؟ الصحافي كليمون وال ـ راينال وموقعه "إنفو إيكيتابل"، والمحامي جيل ويليام غولدناغيل، الذي يتجول في البلاتوهات العديدة للسمعي ـ البصري اليمينية، وبالطبع ميار حبيب، الذي لا يمكن تجنبه، الذي كثيرًا ما يكون في المناورة لمضايقة الصحافيين، وهو المعتاد على الظهور بانتظام على قناة I24News.

 

ويتم نقل مواقف هؤلاء بانتظام من طرف الـ"كريف" ومعهم شخصيات مختلفة، مثل آلان فينكلكروت، وجاك تارنيرو، وصموئيل بريغانو والعديد من مستخدمي الإنترنت والمواقع الفرنسية الإسرائيلية ذات الرواج الضعيف، مثل JJS News، وأيضاً الشبكات الاجتماعية طبعاً. بالنسبة إليهم، وفي تعارض مع العقل والملاحظة البسيطة، فإن شيطنة إسرائيل أمر مرعب في الصحافة الفرنسية. فهم يطالبون بإعلام "متوازن" كما لو أن لهذا المصطلح معنى. يشرح أحد الزملاء العاملين بالقدس: "لديهم فكرة خاطئة عن المعلومة (المتوازنة) التي، بحسبهم، يجب أن تكون باستمرار مؤيدة لإسرائيل". 

 

يذكر العديد من الصحافيين الجملة الشهيرة للمخرج جان ــ لوك غودار حول الموضوعية في التلفزيون: "خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لهتلر"، وقد أكد لي أحدهم أن ميار حبيب حرفها بشكل كبير لينتقد التغطية الإعلامية لفلسطين لتصبح في شكل "خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لإسرائيل". ومع ذلك، فإن أولئك الذين يصفهم بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة "لوموند" في القدس، بـ"النمل الحاقد"، ينجحون في فرض "الأوميرتا" (الصمت). يعلق روني باكمان "سمعت ذلك مراراً من أصدقائي. فهم يجدون صعوبة متزايدة أكثر فأكثر في العمل، حيث يقال لهم: (هل تعتقد أن فلسطين أمر يستحق العناء؟ انتهى، لقد قضي الأمر)". 

 

محمد الدرة

 

قد مرت قضية محمد الدرة من هنا. تعرض شارل أندرلان، مراسل قناة "فرانس 2"، بعد تقريره عن قتل هذا الطفل الفلسطيني البالغ من العمر 12 سنة على يد قناصة إسرائيليين في غزة عام 2000، إلى حرب علنية وقضائية طويلة. يروي الصحافي بالتفصيل اتهامات بالكذب الموجهة إليه في كتاب "مات طفل" (دار دون كيشوت 2010)، وفي مذكراته المهنية الأخيرة، "من مراسلنا في القدس" (دار سوي 2021). لقد استمر المسار القضائي ثلاثة عشر عاماً قبل أن يُبرأ أندرلان من طرف العدالة الفرنسية، وتم رفض تهم ادعاءات متهمه الرئيسي فيليب كارسنتي، الذي حكم عليه بدفع التكاليف. 

 

غير أن الجرح كان عميقاً والإشاعة قائمة. أن تتهم بالتضليل والكذب وأن تسمع "الموت لأندرلان" خلال لقاءات عامة كان أمراً فظيعاً لهذا الصحافي. وإذا كانت "فرانس 2" قد دعمته خلال الإجراءات القانونية، وكذلك فريق التحرير الذي وقع بالإجماع تقريبا على عريضة قدمتها النقابة الوطنية للصحافيين، فإنه "سرعان ما تم تهميش شارلز ولم تكن له حياة سهلة"، كما تقول دومينيك براداليي، الأمينة العامة للنقابة الوطنية للصحافيين وإحدى زميلاته السابقات في قناة "فرانس 2". وتضيف: "لم تعد تؤخذ منه ريبورتاجات، كما قام دافيد بوجاداس، الذي كان آنذاك مقدم أخبار الثامنة، بوضعه على القائمة السوداء".

 

جمعت عريضة أخرى لدعم أندرلان، أطلقها روني باكمان، مئات التواقيع، بما في ذلك العديد من الأقلام، من "لو كنار أنشينيه"، و"لو نوفيل أوبسرفاتور"، و"وكالة الأنباء الفرنسية"، ووسائل إعلام سمعية بصرية عدة. ولكن لم يوقعها أي صاحب وسيلة إعلامية، باستثناء ديدييه بيليه من "لا بروفانس"، وكلود بيردريال، وذراعه اليمنى في "لوبسيرفاتور" دونيس أوليفان. 

 

لم تظهر "مشيخات" الجرائد، على حد تعبير دومينيك براداليي، أدنى قدر من التضامن تجاه شارلز أندرلان، في حين كان واجب الإعلام في ذلك الوقت على المحك، في فلسطين وليس فيها فقط. على العكس من ذلك كان دونيس جانبار، مدير أسبوعية "ليكسبرس"، أحد متهمي أندرلان الرئيسيين، كما تناقلت صحف مثل "لو فيغارو" عدة مرات حجج كارسنتي وأصدقائه أمثال إليزابيث ليفي لجريدة "كوزور"، أو لوك روزن زويغ المتوفى بعد ذلك. ناهيك عن مواقع أكثر سرية والتي يعد تتبع كتلة معلوماتها المضللة شبه مستحيل، والتي تستمر في إدانة أندرلان.  

 

وإضافة إلى ذلك، فإن محاكمات أخرى حركها مؤيدون لإسرائيل خاصة ضد إدغار موران، ودانيال صالوناف، وسمير ناير (برأتهم محكمة الاستئناف باسم حرية التعبير بسبب مقال نشر في جريدة "لوموند" في 2002)، أو دانيال ميرميت، الذي كان آنذاك يعمل في "فرانس أنتير" (تمت تبرئته هو أيضاً). أخفقت هذه الدعاوى لكنها جعلت رئاسات التحرير تقتنع بأنه من المستحسن البقاء بعيداً. الجميع كانوا يربحون القضية أمام العدالة ضد المؤيدين لإسرائيل، ولكن، وهي المفارقة المريرة، فهؤلاء يخرجون منتصرين من الجدل النتن الذي يحدثونه. للأسف لم يكن ذلك لغطاً من أجل لا شيء. 

 

الآن أصبح الصمت يفرض في الصفوف. سبق أن كتبنا ذلك هنا، هناك أوميرتا مفروضة، وأصبحت معلومات كثيرة لا تمر بكل بساطة. على سبيل المثال، هل قرأنا في فرنسا، نهاية نيسان/ إبريل2021، بأن دوائر "أمنية" إسرائيلية استعملت بشكل سيئ هويات صحافيين للقيام بعمليات سرية لفائدة "زبائن" في أبوظبي؟ لقد تم تداول المعلومة التي نشرها الموقع الأميركي  "ذي ديلي بيست" بصفة واسعة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة… وفي إسرائيل. ولكن لم يكن كذلك الحال في فرنسا، حيث تبدو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أكثر خجلاً تجاه إسرائيل من الصحافة المكتوبة، حيث إن مسؤوليها أكثر فزعاً أو أكثر تأييداً لإسرائيل. وبالفعل، فإن الأصوات الناقدة نادراً ما تكون حاضرة في البلاتوهات. يشهد روني برومان، الفرنسي-الإسرائيلي، مثل شارلز أندرلان ومثل كثيرين آخرين، بأنه لم يعد يدعى من وسائل الإعلام. "أنا شخص غير مرغوب به في قناة فرانس 24. تمت دعوتي ذات مرة بعد ملف قدم في حصة (تتمة تحقيق، Complément d’enquête)، حول اليهود وإسرائيل. وتم إلغاء دعوتي عشية ذلك واستبدالي ببرنار هنري ليفي. ويبدو أن الشركة المنتجة وجدت أنني (رجل مثير للجدل)".

 

يشرح سفير فرنسي متقاعد أنه "يمكن انتقاد إسرائيل بفرنسا، ولا ندخل السجن بسبب ذلك. ولكن إذا انتقدنا إسرائيل سيقوم أصدقاء إسرائيل ضدنا وهم كثر. أنا لا أريد تضخيم الأمور، الجميع أحرار في التفكير بما يريدون، ولكن توجد في بلادنا حمايات قانونية ضد معاداة السامية، وبالتالي يمكن الاعتقاد بأن النقاش يمكن أن يكون مفتوحاً، ولكن ليس ذلك هو الحال حقيقة". 

 

توضح الجامعية فريديريك شيلو، وهي أيضاً فرنسية-إسرائيلية أن "الهجوم السياسي لجعل المناهضة للصهيونية معاداة جديدة للسامية سمح بتسجيل النقاط لدى الرأي العام. إن الأمر منحاز بعض الشيء ولكن العملية نجحت، وهي فائدة مزدوجة بالنسبة لإسرائيل: أن تتمكن من القول بأن معاداة السامية اليوم مقنَّعَة بطرق مختلفة وبخفض مستوى الحظر على النقد السياسي". 

 

أصبح الخوف من تهمة معاداة السامية يشل العديد من الزملاء. كما أن تبني مجموعات مختلفة (منذ أوائل عام 2021 بمدن باريس ومولوز والمجلس الأعلى للألب البحرية)، لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست الذي يعتبر انتقاد إسرائيل معاداة للسامية لا يسهل الأمور، بما في ذلك داخل هيئات التحرير. أما الدفاع عن فلسطين وعن حقوق الفلسطينيين، يقول برونو جان كور، وهو نائب عن الحركة الديمقراطية (مودم) في سانت بريوك، إنه "ليس موضوعاً يحظى بشعبية كبيرة. كثيرون لا يريدون المجازفة". ويلاحظ جاك فتح، وهو مسؤول دولي سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، أنه "لا يزال هناك تمسك عميق بالقضية الفلسطينية في فرنسا. هناك حركة تضامنية تدفعها الجمعيات، ولكن لا توجد تغطية إعلامية، ولا يقول عنها أحد كلمة واحدة. الغطاء ثقيل، إنه جدار تعتيم رصاصي حقيقي". 

 

لقد لعبت ويلات الإرهاب الإسلاموي دوراً رئيسياً في هذا الصمت. وصار المؤيدون لإسرائيل يكررون أن دعم الفلسطينيين يعني دعم حماس، وبالتالي دعم الإرهاب. على الرغم من أن الحجة واهية، فقد كانت مؤثرة ولا تزال. لم تعد وسائل الإعلام تعمل. وأصبح الموضوع منذ فشل مسار أوسلو ثانوياً. كما أن التهديدات بالمضايقات من قبل أشرس المؤيدين لإسرائيل، والذي يضخم دورهم الـ"كريف"، أدت برؤساء التحرير إلى التزام الصمت والتواري عن الأنظار وفرض ذلك على طاقم التحرير.

 

أهي رقابة ذاتية؟ جبن؟ كسل؟ تأييد؟ "قليل من كل ذلك"، يقول آلان غريش متنهداً، وهو مدير موقع "أوريان 21"، الذي يتابع المنطقة منذ عقود، والذي، مثل برومان، تم "إلغاء دعواته" من طرف وسائل إعلام مرئية ومسموعة، ثم لم تعد توجه له دعوات على الإطلاق.

 

يمكننا لمواصلة الاستعارة الحيوانية "للنمل الحاقد" التحدث عن زملائهم، السحالي الكسولة، والمناجذ حسيري النظر. وهم أساسا العديد من المسؤولين ومساعديهم الموجودين في مهنة ذات نظام التسلسل الهرمي، الذين يقولون بأن الرأي العام لم يعد يهتم بالموضوع، وهي طريقة لتجنب معالجته. ولكنهم في الوقت نفسه يفتحون أعمدتهم وقنواتهم للمؤيدين الكثيرين لإسرائيل. 

 

يمكن التأكيد بأن فريدريك أنسيل، المؤيد المعروف لإسرائيل، على حق. ففي محاضرة قدمها في ستراسبورغ في 2013، ونشرها باسكال بونيفاس، ظهر كديك منتصر وهو يتحدث عن وسائل الإعلام وإسرائيل: "بشكل عام فإن الوضع… (كدت أن أقول هو تحت السيطرة) مؤاتٍ. نجد حقاً وسائل إعلام مؤيدة لإسرائيل متوازنة وصادقة في كل مكان، في كل مكان بصفة مطلقة: ذلك صحيح في الصحافة المكتوبة وذلك صحيح في الراديو وذلك صحيح في التلفزيون". بالنسبة لروني برومان "كان إنسيل يتحدث بموضوعية عن لوبي موجود بشكل موضوعي. إن الأمر متبنى ومعلن". وكان فريدريك إنسيل آنذاك في عز مجده الإعلامي بفضل تسييره المؤقت للعمود الجيوسياسي خلال مرحلة الصيف في قناة "فرانس أنتير"، والذي أوصله إليه فيليب فال، وهو مؤيد آخر لإسرائيل الذي كان على رأس المحطة.

 

كتب بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة "لو موند"، والذي لم يعد يحصي الشتائم والقذف الذي يتعرض له بعد بعض مقالاته، بأن "أولئك الذين يطالبون الصحافيين بالتحلي بموضوعية مستحيلة بخصوص إسرائيل هم بصفة عامة الأكثر تعصباً". إنها وضعية فرنسية بامتياز، لأن وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية والبريطانية أكثر حرية في اللهجة كما في اختيار المواضيع.

 

حتى وإن صار عددهم أقل ــ أغلقت قناة التلفزيون الأولى (TF1) مكتبها بالقدس، ولم يتم بعد استبدال المراسل الدائم لجريدة ليبراسيون ـ هناك العديد من الزملاء، خاصة المتعاونين (الذين يعملون لحسابهم الخاص)، موجودون في تل أبيب والقدس ورام الله ويقترحون تغطية شاملة ومتنوعة للوضع في عين المكان، وعليهم التوفيق بين جبن القادة الباريسيين والتهديدات الرقمية لجماعات الضغط لليمين الإسرائيلي، ناهيك عن وضعهم الاقتصادي الهش. لذلك، فإن نظرتهم ثمينة أكثر، حتى وإن كانت الوسائل التي تفسح لهم المجال تزداد ندرة، وسيكون صمتهم أشد الهزائم مرارة. وليس هذا هو الحال بعد.

 


التعليقات