حميد الرقيمي في حوار مع "الموقع بوست" حول كتابه "حنين مبعثر": لم أكتب نفسي وحاولت أن أصيغ اضطرابات جيل بأكمله
- حاوره : صلاح الواسعي السبت, 10 أبريل, 2021 - 05:22 مساءً
حميد الرقيمي في حوار مع

[ حميد الرقيمي ]

قرأت كتاب حميد الرقيمي "حنيين مبعثر" أخذني الكتاب معه في رحلة مليئة بالدموع والوجع والفرح، والحنين للماضي.

 

وأنت تقرأ الكتاب أدباء كُثر تتقافز أسماءهم لذهنك دفعة واحدة، جميعهم كتبوا يومياتهم الأدبية بأسلوب أدبي أنيق، يستحضرك "فرنز كافكا" في رسائله و"نيكوس كازانتزاكيس" في تصوف ومحمود درويش في حضرة الغياب.

 

أنت فنان يا حميد، قدرتك على السرد رائعة وساحرة تمسك بالمعنى ولا يهرب منك, قيدته بسلاسل لغوية أنيقة غاية في الدقة والدهشة.

 

حرف أنيق ومعاني رائعة, أخذني كتابك معه ولم استطع النوم إلا وقد أكلته كاملا، لغة سهلة عبّرَت عن كل ما يسكننا من أوجاع وآلام، ليس حميد الرقيمي وحده من تجده في النصوص بل كل شاب يمني في العشرينات من العمر يجد نفسه في ثنايا الكتاب يتوسد السطور بطبيعته الواضحة وعذاباته وتساؤلاته القلقة، لقد كتبت حياة جيل من اليمنيين في كتابك حنيين مبعثر يا حميد.

 

نص  الحوار:

 

*حنين مبعثر قادني العنوان لمقال قديم للكاتب اليمني "جمال أنعم" شجن مستعاد وحنين مبعثر" قلت هناك تخاطر بين كاتبين لهما روح واحدة ووطن واحد, فأخذني كتابك معه في رحلة مليئة بالدموع والوجع والحنين للماضي والفرح والحزن.. فتساءلت لماذا يجب على الكاتب ان يسرد أوجاعه وهمومه؟

 

**بطبيعة الحال أنا لم أكتب نفسي فقط، لقد حاولت أن أصيغ اضطرابات جيل بأكمله، جيل ينام مع أزيز الرصاص ودوي المدافع وهدير الموت الذي يطارده في كل مكان، لم أكن أنا وحدي في حنين مبعثر، بل حياة الكثير من اليمنيين بالداخل والخارج، المشرد والمنسي، المنفي واللاجئ، اليمني الجندي جريحاً أو شهيداً، الطالب والمعلم، المثقف والباحث عن لقمة يومه، عشت ومازلت مع هؤلاء في عمق تفاصيلهم، هؤلاء جماعة من لحمي ودمي ونبضات قلبي، لهذا كان لزاماً عليّ أن أكتبهم لأتخفف من عذبات الضمير التي تأبى أن تفارقني وكأنني المسؤول الوحيد عن كل هذا الشتات وكل هذا الضياع.

 

* في رسالة "منفى آخر" تحدثت عن الإنسان اليمني قلت "نحن شعب المعجزات يا أمي, شعب عظيم لا يشبه الا نفسه, يألف كل شيء وتألفه كل الأشياء, شعب يعرف جيدا طريقة خلوده في أعماق كل الشعوب, وهو ايضا ما ألمسه في حديث ومشاعر الغرباء.." هناك من يتحدث عن ان اليمني بالرجل الإرهابي الذي لا يعرف الا طرق الموت والدمار هل هذا النظرة موجودة فعلا أم انك تحدثت عن وضع الانسان في البلد الذي زرتها فقط؟

 

** لا أعتقد بأن هناك إنسان سوي يحمل في ذهنيته هذه الصورة عن اليمني النقي، أينما ذهبت ستجد في قلوب الآخرين يمنياً واحداً فقط- النخوة والكرامة، الإباء السامق والإعتزاز اللا محدود - ولا يمكن أن تجد مجتمعاً عربياً مجردّاً من الإلتصاق بهوية اليمني التي يتفاخرون بها كلما صادفتهم، في كل بلاد عربية، ستجد من يحدثك بحب كبير عن اليمن، من يحاول العودة إلى الماضي البعيد فقط من أجل أن يبرهن لك إلتصاق جذوره ببلادنا الطيبة، صحيح حاول النظام السابق تشويه الصورة اليمنية من أجل دوافع سياسية واقتصادية ذاتية، إلا أن الحضور اليمني بقي طاغياً بالنبل والنقاء، وهذا ما نلمسه في كل مكان نذهب إليه.

 

*لماذا أخترت فن الرسائل بدلاً من الرواية أو غيرها من الفنون الادبية الاخرى هل لطبيعة الرسالة التي تريد أن توصلها للأخرين حتمت عليك اختيار فن الرسالة ام ان هناك محددات اسلوبية في نفس الكاتب اجبرته؟

 

**اختياري لأدب الرسائل كان دون ترتيب مسبق، وجدت نفسي فيه أكثر صدقاً مع أمي وكل من أخاطبهم في هذا الكتاب، أردت بهذه الكيفية أن أنساب على القارى بطريقة سلسلة ومختصرة أيضاً، صحيح قلّة من يكتبون هذا النوع من الأدب في اليمن، ولا أعرف هل صدر كتاب من قبل بنفس النوعية، لكنني كنت فيه متجرّداً من خيالات الرواية البعيدة، لهذا كتبت هذه اليوميات بطريقة بسيطة وغير متكلّفة، لأنني لم أكتب نفسي فقط ولم أخاطب أمي وحدها.

 

 

*رمزية الأم هل يمكن فهمها كدلالة تحمل رمزية للوطن "الأم الكبير"؟

 

** عندما قررت سرد هذه النصوص، كانت تتراءى لي أمي بثنائية عجيبة ومدهشة، الإنتماء المعجون بالدم، والعطف الذي يسابق نفسه على إحتوائي، وكنت بينهما ألملم جراحات شعب أرهقته الحرب، شعب يعيش تغريبة أكثر صعوبة من التغريبات الأخرى.

 

منذ ستة أعوام وأنا لم ألتق أمي، غادرت منزلنا خائفاً من كل الأشياء التي تسكن مدينتي المحتلة، وبدأت مع هذا الهروب أعيش حياة مختلفة، بطرق مختلفة أيضاً، صار لي قضية ومعركة، وخلال هذه المرحلة التي عُجنت بها امتلأت بأمي اليمن وعشت في سبيلها لأكون لائقاً بها وبأمي الأخرى.

 

*عملك في الاعلام كيف أثر على مستوى نتاجك الأدبي كما ونوعا؟ وهل الإعلام مصدر ثراء أدبي ام يسرق الكاتب والأديب ليجد رصيده في النهاية قد إستهلك في تتبع المجريات اليومية؟

 

** أنا مازلت صغيراً، في منتصف العشرينيات، ومازلت طالباً أيضاً لم أحصل على البكالرويس في الإعلام بعد، صحيح عملت لأكثر من قناة، مارست مهنتي في مختلف الوسائل، غطيت معارك الجيش الوطني والتصقت بجراحات المشردين وتأوهات المضطهدين، انصهرت بأحلام المدافعين عن كرامتهم وجمهوريتهم وأحلام شعبهم، وفي هذه التفاصيل العظيمة نضجت كثيراً، كبرت سريعاً، وتشكلت شخصيتي بكيفية مختلفة عن العمر الذي أنا عليه؛ فكان للإعلام دواراً بارزاً في توجهي الأدبي، حاولت كثيراً أن أصقل ذائقتي وأحشد أكبر قدر ممكن من المعرفة اللغوية لأكون قادراً على مخاطبة الآخرين والكتابة نيابة عنهم، كتابة أوجاعهم وهمومهم، صياغة تطلعاتهم وأحلامهم، وبهذا تجاوزت قليلاً ربكت الخطوة الأولى في الكتابة وحاولت بقدر الإمكان أن أجسد التغريبة اليمنية في حنين مبعثر.

 

الأدب هو ذخيرة الإعلامي، قوته ومصدر إلهامه، لا كاتب صحفي أو مذيع دون ذائقة أدبية، لأن الأدب يعطيك القدرة على معرفة دواخل الآخرين ويعطيك أيضاً قدرة الحديث والكتابة عنهم.

 

* في إحدى النصوص تمنيت لو تقدر تعود إلى سيرتك الأولى وعللت ذلك بأن الحرب في اليمن أكسبتك نفسية أخرى.. كيف غيرت الحرب اليمنية في نفوس الناس وما هي إنعكاساتها على الادباء والمثقفين على وجه الخصوص؟

 

**عندما أنزوي مع نفسي، وأعيش المقارنات المعقّدة، أجدني مختلفاً كثيراً عن من هم في عمري، دخلت العمل الإعلامي صغيراً، ومارست السياسية بطريقتي المتواضعة وأنا صغير أيضاً، تراكمت في أعماقي مسؤوليات سلبتني سيرتي الأولى وحقي في العيش الهادئ الذي يمنحك في بداية العشرينات حياة خفيفة خالية من التعقيد والحسابات الدقيقة، كان عليّ أن أكون بجانب أمي سنوات أخرى كثيرة، أن أشبع برائحة منزلنا ولمّات عائلتنا، أن أمارس حقي باللعب والهوايات المفضّلة، أن أسير خفيفاً في الحكايات التي دائماً ما أسمعها في حياة الكثير ولا أجدها في حياتي.

 

بعيداً عني، دفع ويدفع المثقف اليمني ضريبة باهظة، لا لذنب أقترفه؛ فقط لأنه مدرك للأشياء، المثقف الأديب على وجه الخصوص لأنه بطبيعته مرهف الحس ودائماً ما يعيش أوجاع الآخرين بطريقته الخاصة، والتي تكلّفه توجسات مريعة وقلق لا نهاية له.

 

*تساءل ضمن نص في الكتاب على لسان جيل العشرينات" لماذا ونحن في هذا العمر تحديدا- لم نعيش كما يعيش أقراننا في طقوس هادئة وبسيطة؟ هل عثرت على إجابة لسؤالك.. أم انه لا يزال سؤال مقلق يبحث عن إجابة، وتقلق معه جيل من العشرينين؟

 

** مرحلة العشرينات، مرحلة معقدة وصعبة جداً، تكبر فيها الأحلام ومعها يجد نفسه الإنسان في دوائر عديدة، وعند الحديث عن اليمني الحالم في هذه الدوائر، ستجد المقابر معلّقة على أكتفاهم وهم يبحثون عن وطن حقيقي وعن مستقبل مريح، مقابر تحيطهم من كل إتجاه، والمنفى أكثر القبور سواداً، وهذا ما نعيشه سوى كنّا في الداخل أو الخارج، نحن منفيون ياعزيزي، منفيون من حياتنا وحقنا في الحلم ، منفيون من لغتنا النبيلة، وأفكارنا الخالية من الموت، منفيون من أنفسنا أيضاً، وهذا كلّه تراكمات أنتجتها الحرب طوال هذه السنوات.

 

*ما الذي يجعل من الكتابة والتمرس عليها بنظرك كما قلت في الكتاب" لعنة حقيقية لن يدركها الكاتب الأحمق إلا في لحظة اختناقه وموته البطيء؟

 

** الكتابة لعنة ونقمة أيضاً، تخنقك طوراً وتأتيك فجأة بمتنفس عابر لتعيش بعده هذا الإختناق المميت، وطالما أختنق بها أدباء كبار وتخلوا عنها لسنوات طويلة.

 

ما يجعلك تختنق هي الفكرة التي تأبى الخروج إلو الورق ، فشلك في ترويض المشاعر التي تراكم بعضها في أعماقك، عدم مقدرتك على التخفف من أشياء كثيرة لن تتخلّص منها إلا بالكتابة وحدها.

 

* قلت:"انا منذ ذلك النوع الذي يعجز عن كتابة الاشياء المحددة المطلوبة التي تستوجب تفكيرا كثيرا وجهدا مرتبا, واظن انني لن انجز كتابة رواية ما حييت؟.." وبالمناسبة لست وحدك يا "حميد" الا تلاحظ ان هذا النوع من الكتاب موجود في اليمن وان كتاب الرواية نادرون جدا؟ ما هي الأسباب الموضوعية برأيك التي تجعل كتاب الرواية في اليمن شحيح ونادر؟

 

** أنا من النوع الذي لا يكتب أشياء محددة، وهذه مسألة أخرى تتعبني، طالما طلب مني كتابة أشياء مختلفة وفي أزمنة مختلفة، ولا أقدر، لا أجهّز أشياء مسبقة للكتابة، ولا أقدر على تحديد ماهية الأشياء التي تتطلب مني الكتابة والإنسياب دفعة واحدة، في هذا النص كنت أشكو هذا العسر المتعب، وطالما تعذبني هذه اللحظات، وعندما ذكرت الرواية لم أكن أقصدها دون بقية الأشكال الأدبية الأخرى.

 

الرواية اليمنية وكاتبها ، مسألة أخرى، كثر يكتبون الرواية وبطرق مذهلة، لكن الظروف تحيل بينهم والنشر، أيضاً البيئة غير مشجّعة للإنتاج الأدبي في بلادنا، وتعقيدات أخرى تحول بين الكاتب وأحلامه الكبيرة، وبرأيي الشخصي سنجد في السنوات القادمة روايات يمنية كثيرة، هذه المرحلة الصعبة التي يعيشها اليمنية ستلهمه للتدوين الروائي وسيخرج من صلبها حاملاً أوجاع الشعب وآلامه.

 

* ما الذي يجعل من الكتابة والتمرس عليها بنظرك كما قلت في الكتاب" لعنة حقيقية لن يدركها الكاتب الأحمق الا في لحظة اختناقه وموته البطيء؟

 

** الكتابة لعنة ونقمة أيضاً، تخنقك طوراً وتأتيك فجأة بمتنفس عابر لتعيش بعده هذا الإختناق المميت، وطالما أختنق بها أدباء كبار وتخلوا عنها لسنوات طويلة.

 

ما يجعلك تختنق هي الفكرة التي تأبى الخروج إلي الورق، فشلك في ترويض المشاعر التي تراكم بعضها في أعماقك، عدم مقدرتك على التخفف من أشياء كثيرة لن تتخلّص منها إلا بالكتابة وحدها.

 


التعليقات