في الحلقة الـ14 مقبل نصر يسرد ذكريات إنشاء المعاهد العليا في اليمن وإدخال الوزير الآنسي الكمبيوتر لأول مرة في وزارة التربية

بداية عام 1985، رحلتُ مع التعداد السكاني إلى محافظة تعز، للعمل كمسجل، وقد اخترت منطقتي "أيفوع أسفل"، وما جاورها عزلة "الأكروف"، ويتبعني خمسة أشخاص بوظيفة عداد، وزعتُ بينهم القرى بالتساوي.

وخلال شهر ونصف، تنقلت فيها بين القرى التي جبتها وأنا صغير مع الوالدة أو الوالد، والآن أجوبها وحدي وأتذكر مراتع الصبا ومراعي الظباء، وأستنشق عبير الأشجار الوارفة، وأريج النباتات الزاحفة.

بعض الأشجار قد انقرضت، مثل الأشجار العملاقة "الحُمر" - التمر الهندي- وبعض وديان البن قد خلت من البن، وبعضها تقلصت عدد الأشجار فيها.

وبعض المدرجات الزراعية جرفتها السيول، وتكاسل الناس عن إعادة بناءها لأنها لم تعد مصدر الرزق الوحيد، فالاغتراب من أسباب الخراب، ولم تعد تكفي الأسر التي تملكها، فقد توسعت الأسر وتكاثرت، وظنوا أن البركة نزعت وإنما هي الزيادة السكانية.

وكانت الوالدة، رحمها الله، تسامرني بعد عودتي من القرى، تخفف عني التعب، تشرح لي قصص شقاوتي في الطفولة، ومخاوفها على حياتي من امتطاء الأشجار العملاقة كالطولق والخنس والثعب والطلح والعلب "السدر".

أتذكر أيام الطفولة، عندما كنا نجمع البعار "الدوم"، ونجففه ونضع عليه بعض الرماد، لحفظه من التسوس، ونحفظه في سلة من القصب إلى وقت الحاجة نخرج منه حاجتنا اليومية، ونحتفظ بالنواة كي نكسرها ونخرج منها لبها، فنأكله أو نجمعه كي نبيعه.

وكيف كان الوالد، رحمه الله، يتلم "يضع البذور في الأرض"، وعلينا كأطفال حماية البذور من العصافير وطيور العقب والجرع "الحجل"، وأول ما يقوم الزرع نزيل من حوله الوبل "الحشائش"، كي لا يشارك النبات غذاءه وشرابه، وأول ما يثمر الزرع نحميه من الكلاب والرباح "القرود".

ولذلك قلت:

ولدت بأرض الربى والهضاب

شجيا أغني الصبا والتصاب

أفيق وللكون شدو الطيور

وأغفو على أنس نبح الكلاب

نصارع كل ظروف الزمان

لنهنا يوم المنى بالصراب

يناصفنا الخير ظلم الجباة

ونصف البقية جيش الخراب

مقترح إنشاء المعاهد العليا

في انتخابات توسيع المؤتمر الشعبي العام والمجالس المحلية، كنتُ عضو لجنة انتخابية في خمس مناطق من تعز، حذران والشحنة وما جاورهما.

عدتُ إلى صنعاء، وفي مركز البحوث والتطوير التربوي، ضجة بين قيادة الوزارة وقيادة المركز حول نتائج بحث "دينامية القبول والتدفق"، حيث أثبت البحث من خلال تتبع الإحصائيات أن الإهدار التربوي بنسبة 85%، وأن حصيلة عمل التربية 15%.

فقامت الوزارة ولم تقعد، وخافت من الفضيحة أمام الخارج، ولا يهمها الفضيحة أمام الشعب لأنه شعب "عرطة"، وإدارة المركز تطالب بمخرج علمي تربوي يبرر ما حدث ويمنطق رأى الوزارة.

علي هود باعباد

وفي الأخير حل المشكلة وكيل الوزارة عبدربه جرادة، بتوزيع النسبة على الصفوف الدراسية من أول ابتدائي إلى ثالث ثانوي، فكان حلا علميا، وعرفنا في أي صف دراسي يكثر التسرب، في الابتدائية أكثر مما بعدها عكس الدول العربية تماما.

وفي هذا العام 1985، سافرتُ إلى تونس، لحضور ندوة التعليم العالي في مقر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حول التعليم العالي المتوسط، ويقصد به كل تعليم بعد الثانوية ودون الجامعة، وعدتُ بمقترح إنشاء المعاهد العليا سنتين بعد الثانوية.

تفاعل القباطي، مع المقترح، وكلفني بإعداد النظام الأساسي لها، وتفاعل البنك الدولي، فتم تشكيل لجنة من دكاترة كلية التربية في جامعة صنعاء برئاسة الدكتور علي هود باعباد، لإعداد مقترح المقررات الدراسية لكل فصل، وفي كل المواد، وجاء دوري لعمل تقرير ختامي للمدير العام يقدم للبنك الدولي.

وفي ندوة التربية السكانية التي أقامتها اللجنة الوطنية لليونسكو في صنعاء برئاسة الأستاذ أحمد بن أحمد هاشم الشهاري، قدمت ورقة عمل، أثبتُ فيها أن مقررات التربية السكانية موجودة في مناهج اليمن، موزعة بين مواد التربية الإسلامية والتربية الوطنية واللغة العربية.

وبدأت دورة تدريبية في الخارطة المدرسية، طويلة ومكثفة ومفيدة جدا، حضرت تدريبها العملي والمعرفي الكبير، وعينتُ مشرف محافظة البيضاء على عمل لجان البحث والتقصي.

وشكا بعض المشرفين على الخارطة المدرسية في بعض المحافظات، أن الأهالي فهموا أن الخارطة تعني إلغاء المدارس التي طلابها قليل، فكانوا يحشدون كل الأطفال إلى المدرسة أثناء تواجد اللجنة كي تعد الطلاب كثيرا، وربما تستعير من قرى مجاورة.

فإذا ذهبت اللجنة مدرسة أخرى يضاف لها الأطفال حق القرى السابقة، فشاهدت اللجنة نفس الوجوه تكررت في عدة مدارس، فرجعوا للسجلات، وفي إحدى المديريات لم تنتبه اللجنة لهذا التكرار، وربما غيروا الملابس، فطلع عدد الطلاب فيها أكثر من عدد السكان، بحسب التعداد السكاني.

خطة الاكتفاء بالمعلم

حضرتُ دورة تدريبية في التربية السكانية، وتم تكليفي من اللجنة الوطنية لليونسكو بالسفر إلى تعز، لبحث مشروعات تنمية المرأة الريفية، فتنقلتُ بين المناطق التي عرفتها وأنا طالب في الرحلات المدرسية، في تربة ذبحان والمخا والراهدة وماوية.

وعدتُ بتقارير هامة، وفيها أن النساء يرفضن تربية النحل بالإجماع، ويفضلن أعمال الخياطة والتطريز والفخاريات والإسعافات الأولية، والتعليم إذا تعلمن في نفس المنطقة، وبلغ ذلك منظمة اليونيسيف، فطلبتني لإعداد مشروع تدريب معلمات الريف، أنا وبلقيس الضبي من جهة المنظمة.

تم الإعداد للمشروع طوال عام 1986، واستكمال متطلباته القانونية واللوائح، وبدأ العمل في تنفيذه عام 1987، في الزيدية وزبيد وتربة ذبحان، وقد رافقنا في تدشينه مدير عام التربية والتعليم في تعز الأستاذ إبراهيم شرف الدين.

وكان الأستاذ محمد عبدالله الجائفي، قد تعين وزيرا للتربية والتعليم، في عام 1986، وكان طموحه كبيرا، يريد أن يحل مشكلات التربية العويصة الكبيرة، يريد خطة ليمنننه التعليم الابتدائي كاملا، والاستغناء عن التعاقد في السفارات، وخطة لطباعة الكتب المدرسية كلها.

تم تكليفي أنا والقباطي وعبدالعزيز المقطري، بعمل خطة الاكتفاء بالمعلم، خطة طبيعية منطقية وفق الإحصائيات السكانية والإسقاطات العلمية للنمو التعليمي، فعملنا خطة عشرية للاكتفاء بالمعلم اليمني خلال عشر سنوات، ما لم تتخذ الدولة قرارات حاسمة في معالجات تقصر أمد الخطة.

فكان قرار إلزام خريجي الثانوية العامة بالتدريس في الابتدائية وفق نسبة معدلات قوية، وما دونها يذهبون للدفاع الوطني.

وكان في أذهاننا خريج الثانوية في الستينات والسبعينات، من الكفاءة والقدرة والحماس والحب، ولم نكن نتوقع أن الخراب قد سرى إلى كثير منهم.

وحاولنا نتحاشى هذه الورطة، فكلفني الوزير أنا واثنين موجهين بتأليف كتاب مدرسي في التربية وطرق التدريس، يقرر على ثالث ثانوي، وتم تأليف الكتاب، وتمت طباعته بكمية مناسبة، ودخلنا في مشكلة قانونية، اعتماده كمادة دراسية لها حصص، وإذا دخلت لازم يكون لها امتحان، وإذا رسب فيها، هل يدرس ومعدله عاليا، ولن يقبله الدفاع؟

عضوية المؤتمر الشعبي العام

بدأ عام 1986، بكارثة 13 يناير، في الشطر الجنوبي، ومذابح الرفاق فيما بينهم بالجملة والتفاريق، وتصفية المئات من الدكاترة ورجال العلم، ونزوح الآلاف من البشر نحو الشمال وهو ما سمي بعد ذلك بـ"الزمرة".

وفي عام 1987، صدر قرار وزاري بتعييني مديرا لإدارة التدريب ومدير مشروع معلمات الريف ومقرر اللجنة العليا للتدريب، ونزل اسمي في عضوية المؤتمر الشعبي العام ضمن حصة رئيس الجمهورية.

وعدتُ للكتابة في الصحف والمجلات، حتى مجلة الحراس، الصادرة من وزارة الداخلية، كتبتُ لها مقالات ودراسات، وصار لي حضور إعلامي في المقابلات في التلفزة والصحف.

وفي عام 1988، شاركت في ندوة الكمبيوتر في التعليم الثانوي في بغداد، تنظمها منظمة الاسكوا "اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لغرب آسيا"، بالتعاون مع مؤسسة عراقية، لكن اللجنة التحضيرية أسأت للعرب، لم تستقبل أحدا في المطار، واكتفت باستقبال الأجانب وتوديعهم.

وكانت تصرف للعربي عشرة دنانير عراقية مصروف يومي، والأجنبي يأكل في الفندق كما يشاء، ولم تجهز الوثائق التعليمية، ولم تترجمها إلا بعد سفرنا، ولم توفر ترجمة فورية للحاضرين من المدربين الناطقين بالإنجليزية والفرنسية.

وفي نفس السنة أيضا حضرت دورة تدريبية في معهد الإدارة الأردني في عمان، لمدة شهر كامل مع القيادات التربوية، التي تم إرسالها للتدريب في الأردن على دفعات على حساب مشروع الدعم الإداري.

الكمبيوتر في الوزارة لأول مرة

في عام 1988، تم إنشاء مجلس التعاون العربي الرباعي، العراق ومصر والأردن واليمن، وسط توقعات بتكرار نفس المصير لأصحاب القمة الرباعية في تعز، عام 1977، رغم التطمينات من الزعماء الأربعة بأنه تعاون اقتصادي وثقافي.

وفي لقاء خاص، سأل أحد السفراء الغربيين، وزير يمني: لو طردت السعودية مليون مغترب يمني ماذا ستفعلون، هل لديكم استعداد لاستقبالهم وإيوائهم؟

وهي رسالة واضحة، وأظن أن الوزير فهمها، وقد رد عليه بالقول: علاقتنا مع السعودية قوية.

أحمد الآنسي

وفي عام 1989، تعين أحمد الآنسي، وزيرا للتربية والتعليم، وأحدث نقل تكنولوجية للوزارة، حيث أدخل الكمبيوتر في الوزارة لأول مرة في تاريخها، وأدخل الفاكس في كل مكاتب التربية في المحافظات، إضافة إلى فاكس الوزارة، وحل مشكلات كثيرة كانت تواجه الوزارة في المرتبات والامتحانات والمنح الدراسية.

وفي هذا العام، اليمن تخطو خطوات جادة نحو إعادة تحقيق الوحدة اليمنية الاندماجية، وبدأت المؤسسات مناقشة الاندماج مع نظيراتها، وأنا عضو في اللجنة التحضيرية لإنشاء نقابة المعلمين في الشطر الشمالي، وقد تبادلنا الزيارات مع نقابة المهن التعليمية في عدن.

وفي دمشق، قدمتُ دراسة عن المعلم اليمني في اليمن الموحد بالاتفاق مع وفد الشطر الجنوبي، فجمعت الدراستين في دراسة واحدة، وكان لها صدى واسع لدى وفود المؤتمر من الدول العربية والأجنبية، تصفيق متواصل لمدة خمس دقائق.

وكانت اللجان التحضيرية بين الشمال والجنوب، تدشين لمرحلة يمنية جديدة ومهمة، وفيها الكثير من الأحداث والمواقف.

يتبع في الحلقة القادمة.

*خاص بالموقع بوست.