الأغنية اليمنية.. سبع سنوات من الصمت القهري (تقرير)
- أكرم ياسين الاربعاء, 01 سبتمبر, 2021 - 06:58 مساءً
الأغنية اليمنية.. سبع سنوات من الصمت القهري (تقرير)

[ الأغنية اليمنية تكاد تندثر في زمن الحرب ]

ما يربو على نصف قرن والأغنية اليمنية تتربع على عرش الغناء على مستوى الجزيرة العربية والخليج بدون منافس، بأصالة اللحن وفصاحة اللغة الشاعرية البليغة وروعة الأداء، تسيدت  الأغنية اليمنية مجسدة الثراء الحضاري والحس الفني المرهف لشعب اليمن المسكون بالمحبة والسلام.

 

لا حديث عن الأغنية اليمنية دون الحديث عن عدن، فأهل عدن "عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا" رقصت عدن على إيقاع الآلات الموسيقية في عام 1522م عندما زارت فرقة رقص هندية مدينة عدن لأول مرة، بحسب ما قاله لـ"الموقع بوست" الدكتور نزار غانم المقيم في جمهورية السودان.

 

قبل أن يغادر العرب حياة البادية والبداوة كانت عدن تؤسس مداميك الغناء وتعلي مقاماته.

 

"الموقع بوست" يفتح في هذا الملف أبواب مجالس الأنس والطرب والغناء التي أغلقتها الحرب المستعرة في اليمن منذ سبع سنوات بمغاليق الخوف والموت، وعلى إيقاع جنائزي حزين نحاول مناشدة الجميع لانتشال الأغنية اليمنية والفنانين اليمنيين من تحت أنقاض الحرب والخراب، ولأن الأغنية اليمنية عدنية اللحن والانتماء، ففنانوها الأقدر والأجدر والأصدق تعبيرا عن عوامل خفوت صوت الأغنية اليمنية الشجي.

 

السياسة دمرت كل جميل

 

يقول الفنان "جميل العاقل" أحد مؤسسي فرقة الإنشاد بعدن إن هناك عوامل عدة أثّرت على الأغنية العدنية، كما أثّرت على الإنتاج الفني بوجه عام، وأدت إلى اندثار الفترات الخصبة التي انتشرت فيها الفنون بشتى أنواعها وشهدت فيها البلاد الفرق الفنية والمسرحية، وفرق الرقص الشعبي، وفرقة الأكروبات، ودور السينما، وتواجد الفرق الغنائية والمسرحية التابعة للعديد من المؤسسات مثل الداخلية والجيش والجامعة والشباب.

 

في حديثه لـ"الموقع بوست" يشير العاقل إلى أن من تلك العوامل انعدام وشِحّة الموازنات التشغيلية للمؤسسات الثقافية والإبداعية، وكذا انعدام الأمن والأمان بسبب الحرب والتعصبات الطائفية، إلى جانب انخفاض المستوى المعيشي، وموسمية الحفلات الفنية، ووفاة ومرض العديد من المؤلفين والملحنين والموسيقيين المشهود لهم بالكفاءة وعدم الاهتمام بهم ويمثل عجزهم عجزًا للفن ذاته.

 

ولفت إلى أن هجرة العديد من الكوادر الموسيقية المؤهلة للخارج أثّر أيضًا على الأغنية العدنية، إلى جانب انعدام وجود مخرجات جديدة مؤهلة موسيقيا من معهد الفنون الجميلة لجمود نشاط المعهد، وعزوف الكثير من الشباب عن الالتحاق به، بسبب الحروب، وعدم القدرة على الانضباط في الحضور، بسبب الغلاء، والفقر، والمرض.

 

ووفقاً للفنان العاقل فإن عدم وجود أجهزة لتصوير وتسجيل الأعمال الفنية، وتدمير استوديوهات الإذاعة والتلفزيون والمسرح،  أدى إلى قلة التنافس في تقديم الأعمال الفنية الجيدة، إضافة إلى عدم وجود اهتمام من الجهات المختصة بتوفير مسرح بمواصفات عالية وقاعات مناسبة للبروفات.

 

واختتم الفنان "العاقل" حديثه بالقول: "من بعد الوحدة بدأ العد التنازلي في اندثار وتدهور الأغنية العدنية وتم إغلاق وتدمير المسرح الوطني في التواهي وتقليص مخصصات موازنات الفرق الفنية، الأمر الذي أدى إلى نقل أغلب العازفين الجيدين والمؤهلين إلى صنعاء وأصبح العمل الفني مركزيا تحت سيطرة القائمين على العمل الفني في صنعاء وتقلصت الحفلات الفنية في عدن إلا في المناسبات الوطنية أو عند زيارة علي عبد الله صالح إلى عدن في فترة الشتاء".

 

محاربة الفن

 

وفي الشأن ذاته ترى الفنانة إيمان إبراهيم، مستشارة وزير الثقافة، أن الحرب وعوامل أخرى أثرت على الأغنية اليمنية.

 

وقالت إبراهيم في حديثها لـ"الموقع بوست": "بلا شك أن الحرب أثرت تأثيرا بالغا على الأغنية اليمنية في عدن وأضرت بالفن والفنانين بشكل مباشر وملحوظ من حيث شحة الأعمال الغنائية والموسيقية، بسبب الصراع السياسي الحاصل هناك".

 

وبحسب مستشارة وزير الثقافة فإن انشغال الناس بالبحث عن قوت يومهم وانقطاع الرواتب وإغلاق مبنى الإذاعة والتلفزيون في عدن وإغلاق المسارح الرسمية العامة وتعطيل دورها الثقافي بشكل متعمد أيضا بسبب الصراعات النخبوية الحاصلة والتي آثرت مصالحها الخاصة على الصالح الشعبي العام وعلى الفنان بالأخص.

 

وأضافت أن "الانقسامات السياسية أدت إلى انشغال الفنان العدني بالبحث عن قوت يومه بالدرجة الأولى، إلى جانب عدم توفر المناخ المناسب كي يتسنى للفنانين الانتظام ببروفات كانت تساعدهم كثيرا وتؤهلهم للإنتاج المستمر للأعمال الغنائية ومن ثم تسجيلها في الإذاعة والتلفزيون الرسمي دون محاباة أو مصالح أو تصنيف سياسي".

 

وتابعت: "الآن بات على الفنان أن يكافح من أجل أن يصل إلى إحدى القنوات الفضائية كي يظهر على عكس مرحلة ما قبل الصراع السياسي".

 

الأعراس من أجل العيش

 

بدورها، تقول المطربة العدنية سهير ثابت إن "الأوضاع المزرية التي يعيشها الفن والفنانون في اليمن، وتداعيات الحرب الاقتصادية والسياسية، ألقت بظلالها القاتمة على حياة الناس بصفة عامة وكان ضررها على شريحة الفنانين أكثر فداحة".

 

وأضافت المطربة "سهير"  في تصريح لـ"الموقع بوست" أن الأوضاع السياسية والاقتصادية الملتهبة في اليمن شغلت  الناس بمتطلباتهم المعيشية ومتابعة مجريات الصراع العسكري والسياسي، ولم يعد لديهم المزاج والوقت للفن وأهله، فالفن يزدهر في بيئة مستقرة وأمنة، حد قولها.

 

وأكدت أن الفنان وجد نفسه كغيره منهكاً بتأمين لقمة عيش كريمة لأسرته في ظل تدهور اقتصادي وغلاء أسعار كبيرين، ومع توقف تام للمؤسسات الفنية الرسمية والخاصة، وانعدام الفعاليات الفنية، اضطر أغلب الفنانين للعمل في مهن أخرى من أجل توفير لقمة العيش لا علاقة لها بالفن، ولجأ القليل منهم إلى إحياء مناسبات الأعراس كملاذ أخير للعيش.

 

واختتمت المطربة سهير بالقول: "الفن في اليمن يعيش أسوأ مراحله ويمكن القول دون مبالغة إنه دخل مرحلة موت سريري لا أحد يمكنه التكهن بمآلاتها".

 

ثروة في متناول اللصوص

 

تزايدت في الآونة الأخيرة ظاهرة سرقة الأغاني والألحان اليمنية من قبل فنانين خليجيين ونسبها لهم والادعاء بأنها خليجية.

 

سرقة الألحان والأغاني اليمنية علاوة على كونها جريمة جنائية وأخلاقية، فهي أيضاً عمل تخريبي متعمد لأصالة الفن اليمني العريق وتشويهه من خلال العبث بالنسخة الأصلية للّحن وركاكة أداء أولئك الفنانين اللصوص.

 

تظهر هذه الصورة الملتقطة من برنامج "وناسة" الغنائي الذي تعرضه إحدى القنوات السعودية كيف يتم إظهار أشهر الأغاني اليمنية على أنها من الفلكلور السعودي، أغنية "محبوب قلبي هجرني" العدنية الشهيرة عرضتها تلك القناة على أنها كلمات ولحن من الفلكلور، ليظن المشاهد أنها من الفلكلور السعودي، ولم تقل إنها من الفلكلور اليمني وهي سرقة واضحة لأغنية عدنية ذائعة الصيت.

 

ليست هذه السرقة الوحيدة للألحان والأغاني اليمنية، فقد قام فنانون خليجيون كثر بسرقة ألحان وأغاني يمنية، يأتي في مقدمتهم الفنانان الإماراتيان حسين الجسمي وراشد الماجد والفنان الكويتي عبد الله الرويشد، ولأن وزارة الثقافة اليمنية لم تقم بأي تحرك للحفاظ على الموروث الغنائي اليمني فإن عمليات السرقة لن تتوقف.

 

عن دور وزارة الثقافة اليمنية لمحاربة ظاهرة سرقة الألحان والأغاني اليمنية، وصيانتها والحفاظ عليها كونها ثروة وطنية وتراث حضاري لليمن، أكدت المستشارة الفنانة إيمان إبراهيم مناقشة أمر سرقة الأعمال الغنائية اليمنية في أكثر من محفل وما ترتب عنه هو إيجاد آلية بالتعاون مع جهات تعني بالمصنفات والتراث اليمني من أجل الوصول إلى آلية تمكن الوزارة من تطبيق قانون خاص بالموروث الشعبي والثقافي الفني عما قريب، ولكن بعد أن نعالج قضايا جوهرية للمبدعين داخليا.

 

شيلات وزوامل الموت

 

جنائز بلا نهاية ومأتم في كل قرية وأحياء يرقص فيها الألم على إيقاع نحيب الفراق الدامي لأحبة لم يتبقّ منهم سوى صور خرساء على جدران الموت.

 

الطلقة الأولى في أي حرب تقتل البهجة في النفوس وتعلى صوت الموت وتحيل أفياء الفرح إلى مقابر موحشة.

 

شداد البأس الأقحاح البواسل

لنا القرآن يشهد والرسالات

 

لنا تاريخ بالأمجاد حافل

لنا صولات.. معروفة وجولات

 

إلى الجبهات با نمضي قوافل

ولا نرضى الوصاية والمذلات

 

على وقع هذه الشيلات والزوامل الصاخبة الممجدة للموت والمتغزلة بالشهادة والمشحونة بعشق السلاح بأنواعه، يساق اليمنيون شباباً وصبياناً وشيوخاً إلى الموت راقصين.

 

عبر مكبرات الصوت المنصوبة فوق كل بيت ومنابر المساجد وعلى متن السيارات المتنقلة، نداء الموت هو الأعلى في كل جمع ومحفل، ولا رجولة ولا حياة لمن لا يهب ملبياً لنداء الموت.

 

لقد هجر الحب مجالسه في اليمن وصمتت الشحارير المغردة ونست الأنامل الطربة مداعبة أوتار البهجة واحتضان العود، فالحرب لا تعترف سوى بالأنامل التي تتقن العزف على الزناد وتحتضن البندقية.

 

سبع سنوات من الحرب ودماء اليمنيين المتدفقة بلا توقف تخضب أنامل الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل والموت يحصد خيرة الشباب بنَهم مرعب.

 

تحول اليمن من أقصاه إلى أقصاه لخيمة عزاء كبيرة يلفها الوجوم ويتبادل الجميع عبارات رثاء تلوكها ألسن وشفاه نسيت شكل الابتسامة منذ سنين.

 

أتت الحرب المدمرة في اليمن خلال سبع سنوات على ما تبقى من حياة للأغنية اليمنية وإن كان لنظام على عبد الله صالح السبق في ممارسة سياسة الموت البطيء للأغنية اليمنية وتحويلها إلى مهرجانات موسمية تمتدح إنجازات نظامه الوهمية.

 

لم يتبقّ من الدان الحضرمي وثروة القمندان الغنائية غير حسرة على مجد غابر تعبث به أيادي اللصوص وبكاء عود تمزقت أوتاره كمداً على زمان الحب والأنس والطرب، طوت السياسة والحرب كل أسباب ومظاهر البهجة والفرح في اليمن تاركة الشيلات والزوامل المشحونة بعشق الموت تصدح في كرنفالات الجنائز والمقابر العامرة.


التعليقات